ثمة فرق جوهري وأساسي بين الرواية والسينما، فما يستغرق عدة صفحات في الرواية تخطفه الكاميرا السينمائية بثوان معدودة وتختصر الطريق، لكن هذا الاختصار ليس مجانيّاً، بل له ضريبته التي على مخرج الفيلم أن يحتاط لها جيداً، فقد يأتي هذا الاختصار الذي توفره الكاميرا بنتيجة عكسية على الفيلم، فتترك فراغاً كبيراً يحتاج كاتب السيناريو أو مخرج الفيلم إلى ملئه بما يناسبه. لا يحتاج صانع الفيلم كثيراً إلى وصف الشخصيات وملابسهم وتعابيرهم وأماكنهم وما إلى ذلك، فكل هذا تلتقطه الكاميرا في عدة ثوان فقط، وهنا ينتقل التركيز إلى مكان آخر يختلف عن ذلك الوصف الذي تهتم به الرواية، فيكون التركيز حول “العقدة” وكيف تستمر بالتعقد أكثر طوال مدة الفيلم الزمنية، بحيث إنه كلما قاربت للانفراج عادت إلى التعقد من جديد، فالصراع يجب ألا يكف ولا يهدأ إلا ليعود مجدداً بشكل آخر. كنت أقول: إنه بإمكانك أن تكتب رواية تدور أحداثها في نطاق ضيق “غرفة” مثلاً، ولا تكون مملاً، أو لا يشعر القارئ بانحباسه في أفق ضيق سرعان ما ينزعج منه، ولكن حين يحدث هذا في “فيلم” فمن البديهي أن يكون ذلك أصعب، غرفة تخترقها الكاميرا بكامل محتوياتها في أقل من دقيقة، ثم ماذا؟. لا بد إذن من تصاعد العقدة واضطرادها طوال مدة الفيلم الزمنية، ولكن كيف؟ طفل يولد في غرفة ويعيش فيها حتى يبلغ سن الخامسة مع أمه المخطوفة والمحتجزة في هذه الغرفة قبل إنجابها للطفل الذي بالتالي أصبح محتجزاً معها، ولكن دون أن يدري، فينمو في إدراكه أن هذه الغرفة الصغيرة هي (الكون) بكامله، فهي منتهى إدراك هذا الطفل، يبدأ الفيلم بحبس أنفاس المشاهد معه وهو يتفحص إدراك الطفل المحدود للعالم، ولكن سرعان ما تتصاعد العقدة إلى ما هو أعقد، فتخبره الأم بما يجب أن يفعل وتدبر حيلة لخلاصهما، فتنحبس أنفاس المشاهد من جديد مع هذه الحيلة وهو يحاول أن يخمن نجاح الخطة أو فشلها، ربما سيتوقع فشلها لأنها لو نجحت سينتهي الفيلم ها هي نجحت، وعادوا إلى منزلهم وعائلتهم وقبضت الشرطة على المجرم، وانتهى كل شيء، ماذا سيحدث غير هذا؟ ولكنها تنجح الحيلة فعلاً، ويحدث كل ما سبق، ولكنك رغم كل ذلك تبقي على ثقتك في الفيلم، وتخمن أن ثمة عقدة عظيمة لم تنحل بعد، تفكر أن ما تبقى من الفيلم سيركز على كيفية تأقلم الفتى وانسجامه مع الكون الفسيح الذي انفجر فجأة وحل مكان ظلام الغرفة وضيقها، تطمئن قليلاً لهذا التوقع، ولكن سرعان ما ينسجم الفتى مع المجتمع والناس بكل أريحية وتتفاجأ أن العقدة تذهب إلى مكان آخر، وتتحول إلى “الأم”، التي تجد أن الحياة كانت تسير إبان غيابها في غياهب تلك الغرفة بشكل طبيعي، وأن العالم لم يتأثر كثيراً لغيابها. للمرة الثانية يخدعك الفيلم ويجعلك تذهب في اتجاه ولكنه يخالف توقعاتك ويذهب بالاتجاه الآخر، وهذه في نظري عبقرية ومهارة، وعلاوة على ذلك فقد برعت الممثلة بري لارسون في أداء هذا الدور الصعب الذي جسدته في فيلم ” room” ،استحقت معه جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عن العام الماضي.