%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-7

 

موسوعته وثقافته الفنية والإبداعية 

اختزل “عبد الرحمن الغابري” كل عناصر التضاريس الطبيعية والإنسانية والثقافية اليمنية، في لوحات، على فوتوغرافيتها ، نفخ فيها من خياله الفني و رؤيته الجمالية والفكرية ، ما تفتق عنها نصوصاً تنبض بالتشكيل حياة ظل الغابري يجددها مع كل لقطة تقتنصها عدسته التي جال بها جبال وسهول ووديان وقرى ومدن وسواحل وجزر اليمن ،على مدى أربعة عقود ،قدم فيها اليمن فوتوغرافيا في سيمفونيات بصرية رفعت اسمه عالياً .

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a100000

 

     يتفرد اليمن بخصائص جمالية في مشهده البصري، وهي خصائص تحتاج إلى عين محترفة قادرة على إعادة اكتشاف جماله المخبوء في التفاصيل بذكاء يعيد قراءة تلك المفردات في مؤلف بصري جديد..

  يعشق الفنان الغابري الكاميرا منذ طفولته ،ويحتفظ منزله بعددِ كبير من أنواع مختلفة من الكاميرات من ماركات عديدة ، ويوثق أرشيفه الفوتوغرافي للطبيعة والإنسان في اليمن وبشكل يكاد يكون هو الأرشيف الوحيد الذي يمكنك من خلاله أن تتحسس الطبيعة والإنسان في اليمن المعاصر بصرياً ،في الوقت الذي قد لا يتوفر لك ذلك معلوماتياً وكذلك فوتوغرافيا، وبخاصة ذات العلاقة ببعض المعالم المعمارية والثقافية التي اندثرت واختفت ، ولا تحتفظ الجهات الحكومية بأي صورة لها إلا أنك ستجدها – حتما-  في ذاكرة هذا الفنان و أرشيفه .   

   نظم عبدالرحمن عشرات المعارض داخل اليمن وخارجه، ونال العديد من الجوائز، واُحتفي بتجربته في منابر كثيرة، ومنحته وزارة الثقافة درع الوزارة، فيما منحه اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في حفل مماثل درع الاتحاد.ويمثل تكريمه من أعلى مؤسستين ثقافيتين في اليمن دليلاً على المكانة التي تتموضع فيها تجربته الفنية.

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-1000

 

      يتضح للمتأمل في لوحات هذا الفنان كأنه قد قدَّم أفضل ما في اليمن من مناظر سواء في الريف أو الحضر أو الصحراء أو الجبال أو السواحل أو حتى الجزر… كأن أجمل ما في هذه المناظر قد استنطقته عدسته، بل كأن اليمن كانت تحابيه بهذه المناظر، التي كأنها كانت تتهيأ له فقط على حد تعبير أحد زملائه.

    يقول الكاتب والناقد الدكتور حاتم الصكر في كتابه أقوال النور: “يقضي الفنان عبد الرحمن الغابري أوقاتاً طويلة منتظراً طلوع الفجر وراء سحابة  أو قمة جبل أو فوق زرقة  البحر ليأسر انعكاسات الشمس و حوار الظلال والأضواء في الأفق المفتوح للبصر حين تنام عن هذا المشهد البصري أعين كثيرة ؛فيقدم لها مشاهداته بعد أن تمسها يداه في مراحل إعدادها وتحويلها إلى مفردات بصرية معالجة بالحيل والتقنيات البصرية التي كان السينمائيون  يدعونها خدعاً ،وهي في ظني قراءة للمشهد  البصري تؤول جمالياته وتستكمل غير المنطوق من دلالاته بإضافات الآلة وسحر الطباعة والتظهير”.

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-333

 

 بل إن تجربة هذا الفنان تُعيد الاعتبار لمناظر طالما ألفناها في لقطات مصورين كُثر، بما فيها صور المعالم والمواقع السياحية والتاريخية، إلا أنها مع هذا الفنان جاءت مختلفة؛ لأنه انطلق– هنا- من رؤية وأحاسيس فنية وذكية ونظرة تاريخية وثقافية واعية ومستوعبة ؛ أعادت قراءة هذا المنظر فوتوغرافيا في لوحات أعادت الاعتبار للمنظر، بينما فشلت في ذلك كثير من العدسات ،التي ربما قد تكون سبقته في محاورة واستنطاق خصوصيته … وهنا يفسر الغابري هذه الفكرة:” العدسة المحبة والمستوعبة لمفردات لغة الجمال والواعية بمفردات ثقافة المكان والمدركة لخصوصية الزمان والمتعاملة بحرفية عالية في اختيار الزاوية وتحديد الوقت المناسب لاصطياد المنظر … عوامل كفيلة بتفويز العدسة بلقطة جديدة مكتملة “.

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-4444

 

  و يضيف موضحا في حديث إلى مجلة ددبي الثقافية :” تبقى العين المُحبة هي أساس جمال الصورة؛ فالحُب هو دليل الفنان إلى حيث يكون الجمال مختلفاً متوهجاً في ذروة تجلياته ” .         

  لا تمثل المواقع التاريخية السياحية المألوفة للعدسة هي وحدها محك اختيار واختبار حرفية علاقة هذا الفنان مع آلته ومناظره، بل كذلك هي المواقع الطبيعية بما فيها المناظر التي يبرز فيها البحر أو الماء عنصر هام من عناصرها… وفي مثل هذا النوع من المناظر نجد الفنان الغابري على الرغم من انه اكتفى في بعضها – فقط – بثلاثة عناصر:الشاطئ والبحر والسماء؛وأحيانا بعنصرين:اليابسة والماء.. قد جاء  بها لوحات استنطقت عناصر عديدة من باطن العناصر الرئيسة… فنجده استطاع من خلال مهارته في اختيار الزاوية والوقت تحقيق انسجام جديد بين ظاهر و باطن العناصر…فهذه اليابسة بتركيبتها الصخرية الرملية وتشكيلتها ذات الحواف التي نحتتها وصقلتها الأمواج،وهذا الانسجام بين الأمواج وأطراف هذا الشاطئ الصخري …والتي جميعها تستظل بسماء أبدع في توظيف مكوناتها السُحبية مثلما أجاد توظيف الأشكال المختلفة للتشكيلات الصخرية في الشاطئ بما مكنه من الخروج علينا بعد معالجة فنية وذكية بلوحة ذات أبعاد جمالية عديدة لمنظر البحر والشاطئ والسماء . 

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-10

 

  من السواحل إلى الربوع الخضراء، والمثير في هذا النوع من المناظر ليس في اللوحات البانورامية وإنما في لوحات أخرى عديدة تنَّقل فيها الفنان بين الوديان والمدرجات الجبلية والمرتفعات فاقتنص مشاهداً كان بارعاً و ذكياً في خياله وتوليفه ومعالجته لعناصرها ،وبخاصة تلك المناظر المتجلية عن مواقع القرى المعلقة في قمم جبلية تعانق السحاب،ولوحات أخرى عديدة ظهرت فيها حساسيته الجمالية العالية و رؤيته الموضوعية  وخياله الخصب محققاً عبر سطوحه التصويرية لوحات شكلتها ذائقته ورؤيته وحرفيته ؛ليقدم لنا ما نقف أمامه كثيرا ، ومنها هذه اللوحة التي التقط فيها منظراً لكرات الثلج مكومة على صفحات من الأوراق الخضراء عقب هطول المطر… فاللوحة أبلغ من أي حديث… 

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-5555

   تركز عدسة الغابري في كل لوحاتها على معاني الحياة وتجليات الجمال ولهذه نجده في المعمار وفي الوديان والحقول والغابات والسواحل والجزر وغيرها لا يتجاوز منظراً مفعماً بالحيوية، سواء كان المنظر لشجرة أو نبات أو طائر أو حتى أحياء بحرية أو حتى لحشرات…وهو في كل ذلك لا يتجاهل العنصر الإنساني بل يبرزه في أفضل وأبسط مظاهره من خلال وجوه أجاد تصويرها مجسداً كل ما فيها من طفولة وبساطه ومعاناة وبخاصة في الريف… 

 

 

%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a11

   …ويبدو الفنان في هذه البروتريهات حساساً جدا لحالاتها لذا برع في تصويرها وتجسيدها في ابلغ نص؛ لأنه خاطب من خلالها الإنسان في ابسط ما يكون وأعظم ما يتجلى عنه، وهو ما يتضح في منظر التقطته عدسته لفلاحة تعتمر قبعة مصنوعة يدوياً من خزف النخيل وتحمي الرأس والوجه من اثر أشعة الشمس في الحقل… ثمة الكثير يريد أن يقوله الغابري من خلال هذه اللوحة بما في ذلك  مدى اقتناع المرأة بما تقوم به واجتهادها وتفانيها وفي نفس الوقت ما تعانيه     وتسهم من خلاله في حياة قاسية تعيشها في الريف بصمت…  

 

%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab-%d9%8a%d9%85%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d9%82%d8%b1

  يقول:” ربما هذه اللوحة هي من أهم اللوحات التي اعتز بها ،إذ تعكس نصا كاملاً  يروي حكاية المرأة التي تصنع الحياة وترعاها في الريف اليمني…وليست وحدها هذه اللوحة التي تتحدث عن ذلك؛ فكثير من الوجوه بما فيها وجوه الفتيات فنظراتهن وتضاريس ملامحهن أكبر من أن نحكيها في هذا الحيز فيكفي أن تنظر إليها لتقرأ ببصيرتك ما لم تقرأه ببصرك!”..

  وعلى الرغم من تنوع وتعدد أعمال هذا الفنان؛ إلا انه يبقى سعيداً بكل هذه اللوحات…فجميعهن نتاج حبه لوطنه، وبالتالي” فجميعهن بناتي وأنا سعيد بكل لوحة من هذه اللوحات”..

 

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%8a-6666

 

 و يخلص الغابري مشيراً إلى بعض  العوامل التي تبلورت من خلالها علاقته الخاصة بالتصوير انطلاقا من الحب : حب التصوير و حب اليمن و حب المنظر وعشق الجمال ،من خلال العين الجميلة، والقدرة على قراءة و اصطياد الخصوصية بواسطة حس ذكي ….أنا لولا  محبتي لليمن لما أنتجت هذه الصور اللوحات التي تعكس ، أيضاً ، مدى عشقي و حبي للكاميرا و للفوتوغرافيا … الفوتوغرافيا هذا العالم الذي لم نستوعب في العالم الثالث أبعاد سحره، وهو السحر الذي ننبهر بانعكاساته القادمة إلينا من الشمال، ونكتفي بذلك الانبهار الذي لم يحرك لدينا نزعة توطين هذا السحر و تعريبه والاحتفاء به والاستفادة منه وتوظيفه في ترسيخ ثقافة الجمال في مجتمعاتنا… فنحن كما قال احد زملائي المصورين لم ندرك سحر الفوتوغرافيا بعد؛ إذ مازلنا ننظر إليها من بُعد وظيفي نَسَقي في الغالب، أما البعد الفني الرؤيوي الذي يتجاوز المرئي إلى التأويل عبر لغة الضوء …فلم نحز من قدرة التعامل معه وقراءته سوى القليل جدا “.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.