الفنان عبد الكريم السيد

الفنان التشكيلي الفلسطيني ” عبد الكريم السيد” غادر محترفه الأكاديمي والمهني كطبيب أشعة، ليعود لأحضان موهبته الفنية التشكيلية التي وجدت لها مستقراً في دولة الإمارات العربية المتحدة، دربة وثقافة بصرية وخبرة تقنية واسعة الطيف والموصولة في مجالات الفن التشكيلي دراسة وكتابة وإنتاجاً، متوجاً هذه العودة المحمودة عبِر موقعه المهني والإداري كفنان وباحث بمركز الفنون بدائرة الإعلام والثقافة في إمارة الشارقة.

هو من مواليد بلدة المجدل بفلسطين عام 1945، قادته مجاهل النكبة الفلسطينية إلى أماكن جغرافية عربية ودولية متعددة، تخرج من كلية الطب بجامعة بغداد عام 1973، مُتابعاً دراساته العليا في ميادين الأشعة بجامعات النمسا متخرجاً عام 1982. درس الفن على نفسه في العديد من محترفات عديدة سواء بالمتابعة الذاتية والثقافة المستدامة، أو من خلال خضوعه لدورات فنية في تاريخ الفن والتذوق الجمالي والتصوير الملون ما بين 1997 – 2000 في معهد الشارقة للفنون. حاصل على عضوية مباشرة وفخرية في عدد من الاتحادات النقابية والمهنية العربية والدولية، وحائز على مجموعة من الجوائز وشهادات التقدير، أقام نحو عشرة معارض فردية وعشرين مُشاركة جماعية داخل الإمارات العربية المتحدة وخارجها.

معرضه الفردي الأول في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية بالشارقة عام 1987، يُؤرخ بداية طيبة لإبحاره الفني في عوالم الخط واللون، وتجليات النفس والرؤى الذاتية المشبعة بمساحة بمكونات الطبيعة والإنسان، فتح لسجال المحاورة البصرية من داخل النص، ومقدرته على إثارة مجموعة من الأسئلة المُعلقة، والباحثة عن أجوبة فنية تشكيلية تليق بروحه المغامرة فوق سطوح لوحاته. ليُشكل معرضه الثاني في المركز الثقافي بالشارقة عام 1989، مفصلاً مهماً في تجلياته والتفاتة محمودة في تراكم خبراته الشخصية، وتمكنه التقني في رصف مفردات عناصره المتحركة داخل حيز لوحاته، ومعرفته لطاقة الأدوات والمواد التقنية المُستعملة على تبيان الأثر والمؤثر، وتحريرها من صمتها وإدخالها في مجرة المشاكسة الرمزية لعناق أفكاره المطروحة، لاسيما المتصلة بالألوان المائية والزيتية وأحبار الطباعة المشغولة بيد ماهرة، وعين قادرة على تدوين نصوصها المتوالدة بالرشة تارة، وسكين الرسم في كثير من الأحوال، تكسر نصاعة الأبيض ورهبانيته، تجوب في مدارات فتنتها التقنية وفكرتها الموضوعية، عِبر مجموعة متوالية من المعارض الشخصية التي ساهمت إيجاباً في سبك معادلاته التقنية ومضامين لوحاته، والإفادة من مكونات العنصر الواحد وتكراره وتحويره كمعادل بصري متوالد في واحة ابتكاره.

معارضه الفردية تأخذ بعناوين المدن المنسية، العابرة في مساحة حلم ويقظة ومظلة وطن ومواطنة مفقودة، تستقوي بالأمكنة المُحيطة وتستحضر الطبيعة الخلوية البحرية والنباتية، وبعضاً من شخوص وجوه مارقة في مساحة المُخيلة، مرصوفة بتقاسيم رمزية مفتونة بحركية اللون وامتداد المساحة التجريدية. أوجد (السيد) لذاته الفنية التشكيلية أساليب ابتكار خاصة في التعبير عن ذاته وفطرته كإنسان، وفنان مشدود بطريقة ما أو بأُخرى لجماليات المنطقة العربية عموماً، ويوميات قضيته المركزية فلسطين خصوصاً عِبر تجليات بحثه اللوني واختزاله البصري لمضامين لوحاته، داخلاً من بوابة الرمز وغنائية التجريد، المُحملة بأنسام الحساسية الإنسانية الكاملة والمُتفاعلة مع رقص الخطوط والمساحات الملونة، والقادرة على تدوين نصوص بصرية مُحلقة في مجون الفكرة المؤتلفة، كتعبير صريح على سطوح رموزه ومرئياته، تلك المجبولة بفتنة التجربة والمغامرة الشكلية، المُعبرة عن روح شفافة لفنان لا تعرف إلا الوداعة والابتسامة الدائمة المسكونة فوق شفاهه، فيها ما فيها من ذهنية التأمل ومدارات التفكُّر البصري. تُدخلنا ضيوف أعزاء على مساحة الرؤى وتداعيات أماكنه وشخوص تكويناته، مُحورة لبعدي المساحة المنظورة والتقنية المتناثرة فوق سطوح لوحاته. تعرف طريقها جيداً في ملامسة مفاتن المساحة والخط واللون ومعابر الفكرة المُنشودة، ترسم معالم خياله وحدود مدوناته الخطية واللونية، تقترب من واحة الوجدان والنبض الشكلي المسبوكة في ظلال عجينة لونية متجانسة، ومتعارضة حدة وحساسية في دسامة طبقاتها المرصوفة في كثير من الأحيان.

تُبقي نوافذ الرؤيا مفتوحة على تنوع السرد والقراءات البصرية، وسجال المحاورة الشكلية والتقنية لرمزية المكونات والعناصر المطروحة في بنية التكوين، وتستوجب معاينة حسيّة لمداخل حدسه الشخصي وانفعاله الداخلي وإشاراته المتوافرة في جميع لوحاته، لا تجد للواقع التسجيلي مكانة ظاهرة للعيان فيها، وإنما مُتخفية في تجليات اللون وتناسقه واندماجه عِبر رموز وأشكال هنا وهناك. لوحات مسكونة بحركية عواطفه وهواجسه المندرجة في ملونات متناسلة من واحة الألوان الرئيسة ( الأحمر، الأصفر، الأزرق، الأبيض، الأسود)، لتُنجب في تدريجاتها المُشتقة ملونات جديدة تبوح بمناهل قصائده الملونة، مُشكلة مسرحاً حيوياً لسرد مقولاته، تُشير بما لا يقطعه الشك إلى طبيعة بنيته لحمتها الشكلية ومناهل إحالاتها الرمزية، ومساحة مناقبه الجمالية التي يحبها ويسعد في وجودها، راقصة في واحة بستانه اللوني المفعم بالحركة الإيقاعية وصخب التوازن والمقابلة والتوافق والتعارض.

البنية التقنية في عموم لوحاته مُغادرة للاتجاهات المدرسية النمطية من كلاسيكية وواقعية تسجيلية وسواها، وإنما مُعمرة بأنفاس الاتجاهات الانطباعية، والواقعية التعبيرية، والتعبيرية التجريدية والمرمزة، تقوم على أساس الهدم الشكلي لبنيوية النص البصري، مُتخفية في واقعية الموضوع، انزياحاً مقصوداً لتجريدية الأبعاد المنظورة لمصلحة التحوير والاختزال، ولا تجد حرجة بصوغها من يده المُمسكة بسكينة قلقة فوق اتساع المساحة، وتجاورها وتداخل ملوناتها دسامة واشتقاق، أو عِبر ريشة نزقه من يده المرتجفة بحنوها الظاهر فوق نصاعة القماش الأبيض، لتُشكل عالماً لونياً حافلاً بمقامات التنوع السردي لمساحات ممتدة، وبقع لونية هنا وتداخلات شكلية هناك. تشدو رومانسية الحُلم، وفصاحة التجريد المساحي المتداعي في جميع الاتجاهات، تبني جسور التواصل التقني المنشود في عموم لوحاته، كبنية تشكيلية مُحافظة على مسالك الوحدة العضوية الجامعة لخصوصية التأليف والتفرد، المُتسللة ما بين جميع مفرداته ومكونات عناصره المتداعية داخل متن قصائده البصرية.

تفوح من تقاسيمها الفيزيائية المؤتلفة في الشكل ودرجات المزج والانصهار اللوني، ومفاعيل الحساسية المُتجانسة في تلاحمها الإيقاعي مع خصائصها الكيمائية كمواد صناعية ملونة، مُراعياً فيها قواعد الرسم والرصف والوصف الشكلي والتقني والجمالي، مٌُبحرة في ثنايا الطبيعة الخلوية الجبلية والبحرية والداخلية، تلم أشتات كائناتها الحيّة من شجر وبشر في بوتقة بصرية واحدة. يعتمد في جميع لوحاته على متواليات اللون المتراقص كخط ومساحة داخل الحيز والفراغ والكتل ومستويات الرؤية المجتمعة في أحضان المستطيل كقطع مُحبب لديه، مُنقسمة على نفسها في مستويات متعددة، تُخلخل عين المتلقي في تماوج الخلفيات الملونة في جهات لوحاته الأربعة، وترسم ملامح أحلام يقظة في داخلها، كرمزية متوارية في روح النص حاشدة بمؤثرات حسيّة مُكللة بالفرح اللوني.

كما نجد في لوحاته مُتسعاً لتأمل وفراسة بصرية لمضامينها الشكلية، المُتكئة على الأساطير المشرقية، وقصص حواري البحر وملامح نسوته الحسان في لحظة تجلي، تستمد نسيجها الشكلي من معين ذاكرته البصرية الواعية التي تستحضر حورياته على طريقته التعبيرية الخاصة، تكتفي بهلامية الوصف وضياع الملامح التفصيلية وفقدان اللمسة الواقعية، مكسوة بدثار اللون المتنوع والمتناسل من أسرة لونية واحدة ومتآلفة، ومُحاطة بخلفيات متناغمة الصدى اللوني، تحمل في متنها نزيف البوح البحري من خلال ملونات رمادية تقف وسطاً في منتصف الحكاية اللونية، المأخوذة بتداعيات الأسود والأبيض وما بينها من تواشيح الأحمر والأصفر والأخضر، تجوب مساحة فتنتها في عين المتلقي وعقله، وتصل به إلى بحره اللوني الراقص على أنغام غوايته الشخصية ونرجسيته الشكلية، كخارج عن سرب العازفين من أبناء جيله ومجاوريه من الفنانين التشكيلين، وأساليبه في رسم نصوص ملحمته التصويرية. كعازف منفرد على تقاسم لوحاته الملونة على سطح أبيض.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.