الفنان محمد فضل

الفنان التشكيلي الفلسطيني “محمد فضل” من مواليد بلدة كفر يا سيف في جليل فلسطين المغتصبة عام 1977. هو واحد من عائلة فلسطينية كبيرة مكونة من ثمانية أفراد قادتهم لقمة العيش إلى مدينة حيفا عام 1982، فأمست جغرافية حيفا الطبيعية موئلاً ممتعاً لطفولته ويفاعته وشبابه التي أمدته طبيعتها الفلسطينية الغناء الجبلية والساحلية بجماليات رؤى، وبمحاسن صور والتمتع بذاكرة لونية حاشدة بالمبتكرات. وكانت جسر العبور لموهبته الفطرية المُشبعة بمتواليات المشاهد والمكونات والجماليات منذ صغره وحتى أيامه الحالية المعاشة، والتي تعمل على تدوين ترجمات حسيّة شكلية وتقنية وجمالية على سطوح الخامات المُستعملة والمتاحة للرسم والتلوين.

أنهى دراسته الثانوية في مدرسة ثانوية المتنبي، متابعاً دراسته في ميادين بعيدة عن الفن، ثم سيرته ظروفه المعيشية للعمل مع والده في أعمال البناء. وأسعفته موهبته الفطرية المحافظة على مسافة ما مع ذاته المُبتكرة، والتوفيق ما بين قوت يومه ومواهبه من خلال البحث عن حلول بديلة لمزاولة الفن بطرق تقنية وأساليب خاصة، وبقيت مطالعاته اليومية وخبراته في معاينة الطبيعة، وتلمس مفاتن مكونات محيطه البيئي هي مداده البصري، باعتبارها المعلم الأول لمساقات دراساته الذاتية، مُتعلماً على نفسه، ومتخذاً لذاته المُبتكرة مكاناً طيباً في العروض الفنية التشكيلية بمكان إقامته، ومكنه ذلك التألق الفني التشكيلي للحصول على عضوية بيت الفنان التشكيليين في مدينة حيفا، وهو لم يبلغ بعد سن الثامنة عشرة من عمره.

مسيرته الفنية التشكيلية حافلة بالمغامرات التصويرية التجريبية والتقاسيم الشكلية، المتناسلة من جماليات الطبيعة وحكايات الجدّات والأهالي عن القصص الخرافية والأساطير، والموروث الشعبي في أجمل تجلياته، باعتبارها سلسلة تصويرية متكاملة بالخط واللون والفكرة التصويرية التعبيرية المحلقة بفضاء التخييل، والذاكرة الغنية برمزيتها التصويرية ودلالاتها الموحية، والمتساوقة مع روحية قصص كليلة ودمنة، ولكن بدثار شكلي ومحتوى موضوعي يميل إلى البساطة والتبسيط الشكلي للمكونات والرموز والشخوص والأماكن.

هو بحق رسام الحكايات الشعبية والمقولات العفوية، يُدونها بحس تقني تجريدي لا يشابهه فيها أحد. رسوم ولوحات تجريبية معبرة عن الذاكرة الشعبية الفلسطينية التراثية، وموصولة بالسذاجة الشكلية المحكومة بعلاقات شكلية متوازنة خطاً ولوناً وأشكالاً، وزخرفة هندسية ونباتية وحيوانية، وما تحوي جعبتها التصويرية من ذلك الخلط الفريد لحكايات ورؤى ذاتية بكل ما فيها من مبتكرات، ومتواليات شكلية وحسبة لونية متناثرة فوق سطوح الخامات المستعملة.

مناهل ابتكاره المكرسة في عروضه الفنية كمعارض شخصية، مجموعة في خمسة مراحل وعناوين رئيسة. كانت بدايتها تعود للعام 2005، حينما احتضنت “مؤسسة عبد المحسن القطان” في مدينة رام الله أولى جولاته التجريبية خارج حدود مدينته حيفا. فكانت ولائمه البصرية تحمل في مضامينها وعناوينها، خلفيات رمزية مُقاربة للوضع الفلسطيني المعقد والمحفوف بالمخاطر وبالاغتصاب الصهيوني المقيم. صاغه صراعاً بصرياً من نوع ثقافي وشكلي مُغاير.

فالمجموعة الأولى من لوحاته تحمل اسم “هولاكو 2004” المنفذة بالملونات الزيتية، وتنتمي إلى ذاكرة المحسوس الشعبي في مكوناتها الشكلية ومحتواها الموضوعي، كتعبير عن مظالم هولاكو في طيات التاريخ القديم، وما مثله من مظالم وتدمير للمكونات الحضارية العربية الإسلامية التي حدثت في غزواته الماجنة والحاقدة والمتخلفة أيضاً، وكأن الفنان يُحاول لفت الأنظار إلى حقيقة ما جرى ويجري في فلسطين من مجازر صهيونية لا تقل قسوة وإيلاما عن مجازر هولاكو، بصيغ فنية تشكيلية شفافة وغير مباشرة.

أما مجموعته الثانية من لوحاته، والتي حملت عنوان “الوز 2005″، وهي لوحات زيتية أيضاً، كرسها لجماليات الحياة من خلال إحالاتها الرمزية والشكلية لذلك الكائن الجميل في شكله وملوناته وألفته، وهي بمثابة إسقاطات رمزية لحال الشعب الفلسطيني الوديع الذي ابتلي بالاغتصاب الصهيوني البغيض. بينما مجموعته الثالثة تحمل عنوان “سماء مربعة 2006” تأخذ سياقاتها من أشكال المربع وتواجده في رسومه وملوناته كقطع شكلي هندسي محبب لديهن يسعى من خلاله لاحتضان مفردات عناصره الشكلية، المنسجمة مع تجليات الذاكرة العربية والفلسفة الإسلامية، وبوحها الصوفي، وتجريدياتها الهندسية والمنفذة بتقنيات التصوير الزيتي.

أما مجموعته الرابعة “قائدون في الغابة 2007” والمنفذة بملونات مائية من نوع أكرليك مشغولة بشفافيته ومقدرته على شغل المساحات البينية، وربط العلاقات الهندسية والحسيّة المتوارية ما بين المكونات الشكلية وطبقات اللون وزهوه وبريقه في عين المتلقي وبصيرته. والتي تقودنا إلى حكايات الطفولة وقصص الأهل عن الغابات وأسرارها وما يجول في ذاكرتها من حكايات. تربط في مضامينها وجواهرها تلك العلاقات الحميمة ما بين الإنسان والغابة وما تحتضن من كائنات حيّة ورمزية تفاعل وتكامل في أنماط الحياة.

أما مجموعته الخامسة الموسومة باسم “لعبة المفاتيح 2007” والمنفذة بملونات الأكرليك أيضاً، هي اختمار لرؤى فنية وبحث بصري في جميع مواصفاته التقنية والشكلية ومحتوي دلالاته الموضوعية، وتتويج لتجاربه البحثية، والتي تلخص مراحل نضجه الفني، ومقدرته على امتلاك السليقة الوصفية لرصف مركباته ومشتتاته اللونية، ورموزه وأشكاله المستعارة من واقع الحياة اليومية ومن كنوز التراث الشعبي الفلسطيني المتناقل عبر الأجيال. وموصولة برمزية الصراع العربي الصهيوني، وأحلام الفلسطينيين اللاجئين والمهجرين من بيوتهم التي غادروها مُكرهين والذين ما زالوا ممسكين بمفاتيح منازلهم بالرغم من طول البعد والغياب.

لوحاته جميعها، غير متكلفة في بيان سردها البصري، وهي خارجة بالتأكيد عن سطوة التعبيرات المدرسية الأكاديمية الغربية، متحررة من القيود والنمطية الشكلية، وسابحة في فضاء شكلي مُتسع على الحرية، حرية مفتوحة على ذاكرة المكان الشعبي الفلسطيني بكل أسراره وقصصه وأساطيره، مُتغنية باللون المتسع لجميع مشتقات الدائرة اللونية الرئيسة، والمتناغمة مع إيقاعات الطبيعة الفلسطينية بكل ما فيها من جماليات بحر ونهر وجبل وسهل وخضرة وكائنات حيّة وناس طيبين.

رسومه ولوحاته التصويرية تعتمد على البساطة الشكلية والتحوير الهندسي المسطح للشخوص والكائنات التي يوظفها في حضرة السطوح، وبلاغة السرد البصري وجموحه الشكلي المفعم بالملونات والعناصر الشكلية، المؤتلفة في أحضان مساحاته المنشودة، والمتآلفة حدة لونية وإيقاعات تناسق شكلي وجماليات تدرج لوني، وجودة تداخل للمساحات الخالية من البؤر المنظورة ثلاثية الأبعاد، والاكتفاء ببعدي الطول والعرض، ومحكومة بحساسية التوهم البصري في خداعه الشكلي الملون الذي يفضي إلى ذلك الكم الهائل من الأشكال المتآلفة في داخل أسوار لوحاته. وكأن مضامينه ومكوناته تعيش أعراساً لونية لذات لإنسانية عاشقة للون والمساحة، وجامعة لجماليات الطبيعة والكائنات الحيّة والإنسان في حكايات مفتوحة على التأمل والقراءات البصرية المتعددة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.