الفرنسي كارتييه بريسون رائـد فن تصويــر الشارع واللحظة الحاسمة

لا يقل دور فن التصوير الفوتوغرافي منذ نشأته وحتى اليوم عن بقية الفنون التي ساهمت في تغيير الرأي العام المحلي والعام، إما عبر الكشف عن العديد من الجوانب الإنسانية التي غفلت عنها المجتمعات، أو الارتقاء بجماليات الإبداع ليخلد التاريخ نتاجها في كل مكان وأوان.

وإن كنا نعرف الكثير عن تجارب المبدعين في عالم الأدب والموسيقى والتشكيل، إلا أن معرفتنا في العالم العربي حول ثقافة فن التصوير لا تزال قليلة.

وارتأت «البيان» بالتعاون مع جائزة حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم الدولية للتصوير الضوئي، تسليط الضوء في كل شهر على أحد روائع الأعمال التي اعتبرت بمثابة أيقونة في عالم التصوير الفوتوغرافي، أو إحدى تجارب المصورين الملهمة، والحكاية التي تكمن خلفها، عبر تقديم قراءة لأحد الكتب المتوافرة في مكتبة الجائزة.

وإحدى التجارب الملهمة التي نسلط عليها الضوء هذا الشهر، هي تجربة المصور الفرنسي الراحل هنري كارتييه-بريسون”1908-2004″ رائد فن التصوير الصحافي وتصوير الشارع واللحظة الحاسمة التي تختزل ما يقال في صفحات بصوره التي عكس فيها حياة أوروبا ما بين 1930 و1950.

واقتنيت صوره من قبل كبرى متاحف العالم ليتم تنظيم العديد من المعارض الاستعادية الخاصة بإبداعه في فن الشارع والواقعية والتعبيرية.

تمرد

عشق بريسون المولود في قرية شانتلوب النائية والصغيرة، في طفولته ومراهقته الكتب والأدب والفلسفة. كما جذبته الفنون البصرية ليحرص على تعلم الرسم حينما كان عمره 12 سنة. وتتلمذ على يد رسام عمه جان كوتونيه.

ومن ثم جمعية الرسام جاكس إميل بلانش1861-1942 الذي يعتبر من أشهر فناني النصف الثاني من القرن 19 في أوروبا، والذي كان نموذجاً لإحدى شخصيات روايات الأديب الفرنسي مارسيل بروست 1871-1922 الذي اشتهر بروايته البحث عن الزمن المفقود.

وخيب هنري الابن الأكبر توقعات أسرته الصناعية لدى رسوبه ثلاث مرات في امتحانات قبول مدرسة التجارة. وفي تلك المرحلة، تعرف من خلال صداقته ببلانشيه على مجموعة من كبار الفنانين في باريس، ولتستهويه حينها حركة الفن السريالي.

وبعد مضي زمن، نجح بريسون في إقناع والديه بدراسة الفن على يد المبدع التكعيبي أندري لوتي، وفي عام 1929 انخرط في الخدمة الإلزامية العسكرية في القاعدة الجوية “بورجيه” قريباً من باريس. وهناك بدأت تجربته الأولى مع الكاميرا “براوني” التي اصطحبها معه.

وبلغ تمرده أوجه في العام التالي، حينما قرر بعد تأثره برواية جوزيف كونراد “قلب الظلمات”، ركوب سفينة متجهة إلى أفريقيا، لينزل في قرية تحت النفوذ الفرنسي في ساحل العاج، ليعيش متجولاً ومعتمداً في غذائه على ما يصطاده، ولكن بعد إصابته بأحد الأوبئة عاد إلى وطنه.

“لايكا” الأولى

بعد عودته من جولته الثانية في البلدان الأوروبية عام 1932، اشترى كاميرا “لايكا” في مرسيليا التي استخدمها طيلة مسيرته الفنية. وبدأ بالتقاط صور للناس من الطبقة الدنيا والمناطق النائية بأوروبا والتي شكلت ظاهرة جديدة في مفاهيم التصوير آنذاك.

واستمدت صوره نجاحها وتميزها من التقاطها زمن اللحظة العفوية الآنية، بصورة دقيقة كاملة العناصر، لتكوّن معايير صوره اللاحقة. وأقام أول معرض له عام 1933 في مدريد ولاحقاً في نيويورك. وبعد تلقيه في العام التالي دعوة من حكومة المكسيك للمشاركة في أحد المشاريع، قام بجولة طويلة فيها.

وهناك عاش في أحياء الطبقة الدنيا بالعاصمة على الرغم من تمويله الجيد، وليشاركه السكن الشاعر الأميركي لانغستون هيوز وآخرون. ووجد بريسون بعد سفره إلى نيويورك عام 1935، مواضيع غنية لعدسة كاميرته في مختلف أنحاء المدينة المزدحمة بالناس والألوان.

واهتم في هذه المرحلة بتنمية موهبته في التصوير السينمائي مع صديقه بول ستراند، ليزيد اهتمامه بصناعة الفيلم في العام التالي بعد عودته إلى فرنسا وعمل كمساعد مخرج ثان لعدد من الأفلام التي قدمها المخرج الفرنسي ذو المكانة والاسم: جان رينوار.

التزامات

تزوج بريسون وفي عام 1937، وكان في أواخر العشرينيات من عمره، راقصة آسيا الشهيرة بالرقص الهندي الكلاسيكي المعاصر وسفيرة الثقافة الاندونيسية راتنا موهيني، مما اضطره إلى البحث عن دخل ثابت، وبناء عليه عمل في صحيفة الشيوعيين الفرنسية “هذا المساء”: Ce Soir،.

واكتسب خلال عمله معهم، وإن لم يكن مؤيداً للحزب، التعاطف الإنساني مع المظلومين.

وتجلت بعض المفارقات في عمله خلال تلك الفترة، حينما أرسل ذاك العام إلى بريطانيا لتغطية حفل تتويج الملك جورج السادس. وهناك وجه بريسون كاميرته إلى الشعب بدلاً من مراسم التتويج، والتقط العديد من الصور التي لا تنسى عن الطبقة العاملة في بريتونز التي اجتمعت للمشاركة في الاحتفالات.

أسير

أما خلال اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، تطوع بريسون في الجيش الفرنسي، وفرز برتبة عريف، في وحدة التصوير والأفلام. وبعد احتلال النازيين لفرنسا في العام التالي،اعتقل بريسون مع وحدته في جبال فوسغيس، واقتيد إلى معسكر السجناء في وورتيمبرغ.

وخلال فترة سجنه التي امتدت إلى 35 شهراً، فشل مرتين في محاولة الهرب لينجح في المرة الثالثة. وعاد إلى باريس حيث حصل على هوية مزيفة وعمل كمصور تجاري إلى جانب عمله مع قوات المقاومة السرية. وفتح له تواصله مع جيش الحلفاء، فرصة عمل جديدة .

حيث جرى تكليفه من مكتب الضباط الأميركيين المسؤولين لتصوير فيلم بعنوان “العودة” حول خروج السجناء الفرنسيين من معتقلات النازيين.

«ماغنوم»

ربطت بريسون خلال عمله في صحيفة “هذا المساء” صداقة بالمصورين روبرت كابا وديفيد سيمور اللذين أسس معهما إلى جانب جورج رودجر ووليام وريتا فانديفرت وماريا آيسنر، وكالة ماغنوم العالمية للتصوير عام 1947، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وسافر عام 1947 إلى الولايات المتحدة بهدف التنسيق بشأن إقامة معرضه الاستعادي في متحف الفن الحديث والقيام بجولة في أميركا.

تعاطف

يعد بريسون أول صحافي غربي يسمح له بزيارة الاتحاد السوفييتي السابق والصين، وما ساعده في الحصول على تأشيرة دخول عام 1950 تعاطفه مع الأحزاب اليسارية خلال عمله. وتمكن على الرغم رقابة الإعلام الشديدة في كلا البلدين، من نشر كتابه الأول “موسكو/‏‏‏‏‏‏‏ الناس” وبعدها بعام، نشر كتابه الثاني الصين الانتقالية.

وكانت معارض أعماله لا تتوقف وفي مختلف البلدان وكبرى المتاحف والمؤسسات من معهد الفن المعاصر بلندن عام 1952 إلى متحف باريس للفن الحديث عام 1981.

وفي عام 1999 قدم متحف دنمارك لويزيانا معرضاً استعادياً له ضم 185 صورة من أعماله تحت مسمى أوروبيون، علما أنه أصبح عام 1967 أول مصور في تاريخ متحف اللوفر يقدم فيه معرضاً فردياً ثانياً له.

تواضع

تميز أسلوب بريسون الذي اشتهر بتواضعه حيث يصف نفسه في المقابلات بأنه ليس أكثر من هاوٍ ناشئ، بدمجه بين العفوية التي يقدمها الشارع له وبين إحساسه وإلهامه الداخلي بأجواء السريالية. وبصحبة الكاميرا، صديقه الدائم، استطاع التقاط مشاهد الشارع التي تثير اهتمام الإنسان من زاوية التصوير الصحافي.

وكتب الناقد بيتر غالاسي عن أسلوبه السريالي: تعتبر مجموعته “الأعمال الأولى” مرآة لعهد المغامرة والفانتازيا المتوارية بصورية واهية “الروتين اليومي”. وإذا كانت السريالية تهدف إلى عزل الفارق بين الفن والحياة، فلم يستطع أي كان، مثل بريسون، تحقيق هذا الربط بدقة عالية في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين. و

الأدوات التي استخدمها في فنه: عدد من بكرات الأفلام وكاميرا صغيرة، ولم يكن لديه استوديو خاص تماماً..ولم يكن يفصل الفن عن بقية تجاربه. وأدهش بريسون الجميع عام 1972 حين اعتزل العمل بالتصوير وعاد إلى الرسم والفن التشكيلي.

«على غفلة»

حقق هنري كارتييه بريسون نقلة نوعية في مفهوم وثقافة التصوير الضوئي، فهو مؤسس فن التصوير الحديث ومن صاغ مصطلح «اللحظة الحاسمة» في فن الشارع، أي إبراز أهمية الحديث في كادر الصورة من خلال وضعية الناس ونسبتها مع محيطها، كذلك القدرة على دمج هذا الفن بالسريالية.

ونشر أول كتاب له عام 1952، وتضمن صوره التي التقطها بمفهوم «على غفلة».

كلام الصور

1 – ضاحية هيير الفرنسية 1932 .

2 – مزارع يأكل في الأيام الأخيرة لحزب الكومينتانغ القومي الصيني 1948.

3 – عالمة الفيزياء مدام كوري مع زوجها 1944.

4 – جدار برلين بألمانيا الغربية 1962.

5 – تتجلى في صورته في ضاحية بري بفرنسا النسبة الذهبية لجمال الصورة 1968.

6 – خلف محطة سانت لازار بباريس عام 1932.

7 – ساحة ترافالغار بلندن في حفل تتويج الملك جورج السادس 1937 .

8 – لقطة في لندن تجمع بين غرابة جلسة العجوز وعكازها وشغلها لمساحة من فراغ الكادر 1937 .

9 – أحد أشهر صور بريسون لرجلين يطالعان العرض عبر ثقوب في الحاجز ببروكسل 1932.

الكتاب:

نافذة على رواد التصوير

المصور: كيتي كليفورد

الناشر: مؤسسة آبيرتشور

الصفحات:

95 صفحة

القطع: الصغير

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.