فيليبو عند ونوس
إضاءات
الثلاثاء26-6-2018
سعد القاسم
بقدر ما توفر المشاريع الدراسية لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية فرصة التعرف على طيف واسع من الكتّاب المسرحيين في العالم، تمثل عروض التخرج، والعروض المفتوحة للجمهور، فرصة مماثلة لهذا الجمهور، خاصة وأن قسماً غير قليل من الكتّاب المسرحيين الذين تنتقى أعمالهم كمشاريع دراسية لم يسبق أن قدمت نصوصهم على مسارحنا، أو قدّمت على نطاق ضيق، كما هو حال نص (نابولي مليونيرة) للكاتب الإيطالي إدواردو دي فيليبو الذي قُدّم الأسبوع قبل الماضي كعرض تخرج على خشبة مسرح سعد الله ونوس في المعهد بإشراف الفنان حسن عويتي.‏
إدواردو دي فيليبو كاتب وممثل ومخرج وشاعر إيطالي له العديد من الإسهامات في مجالات الأدب المسرحي والشعر والتمثيل. ولد في نابولي عام 1900 وتوفي في روما، ودفن فيها، عام 1984. لمع اسمه في فضاء المسرح العالمي إلى جانب اسمي كارلو جولدوني ولويجي بيرانديللو، فقد تجاوزت أعماله حدود بلاده إلى مسارح أوربا وآسيا وأمريكا والبلدان العربية وعرضت مترجمة على مسارح بعض عواصمها، كما اقتبس بعضها للسينما كما هو حال مسرحيته (فيلومينا مارتورانو) التي اقتبست في عدة أفلام سينمائية ومنها الفيلم المصري (تزوير فى أوراق رسمية) للمخرج يحيى العلمي عام 1984. ثم قدمها المسرح القومي المصري عام 1998 تحت عنوان (جوازة طلياني) من إخراج الإيطالي ماريانو ريجيللو.‏
شُغف دي فيليبو بالمسرح منذ طفولته الأولى بحكم عمل أبويه فيه، ولم يكد يبلغ الرابعة عشر من عمره حتى صار المسرح حياته كلها، فوقف على خشبته كممثل محترف، وبعد نحو عشر سنوات بدأ بالكتابة له، فأنجز مسرحيتين من وحي المسرح الكوميدي الشعبي سليل (كوميديا دي لارتي) الذي استهواه كثيراً ورافقه في معظم مسرحياته، وفي عام 1930 عرض مسرحية (سيك سيك صانع السحر) التي كانت بداية نجاحاته المسرحية، وفاتحة سلسلة من المسرحيات تجاوز عددها خمساً وخمسين مسرحية لعب الدور الرئيسي في أشهرها، منها: مخاطرة، الرجل الرجل، عيد ميلاد في بيت كوبييلّو، رجل أبيض الشعر، فيلومينا مارتورانو، و نابولي مدينة الملايين، وقد حققت تلك الأخيرة نجاحاً مذهلاً عند عرضها، وحصد أداء دي فيليبو وشقيقته تيتينا – اللذين لعبا الدورين الأساسيين فيها- تقديراً واسعاً. وقد نشرت هذه المسرحية باللغة العربية ضمن سلسلة (من المسرح العالمي) عام 1968 تحت عنوان (نابولي مليونيرة) بترجمة وتقديم د. سلامة محمد سليمان، وقدمها المعهد المسرحي تحت عنوان (نابولي مدينة مفتوحة).‏
تُمثّل مسرحية (نابولي مليونيرة) روح مسرح دي فيليبو العبق بنكهة حارات نابولي وبيوتها القديمة وطباع ناسها، وهي كمعظم مسرحياته تعنى بتسليط الضوء المسرحي على أثر المجتمع في سلوك الفرد، أو الأفراد، دون التفريط بالمفارقة المتولدة عن تلك العلاقة، وهي ليست بالضرورة مفارقة كوميدية فقد تكون مفارقة مأساوية كما كان الحال حين اكتشف العجوز في مسرحية (عيد ميلاد في بيت كوبييلّو) بأن الناس ليسوا جميعاً بروح طيبة كما يعتقد، وكما كان الحال أيضاً في مسرحية (رجل أبيض الشعر) حين فوجئ الجميع بأن الرجل العجوز الطيب ليس كذلك. أو في مسرحية (فيلومينا مارتورانو) التي تظهر العمق الإنساني عند دي فيليبو وقدرته على التقاط الحالة الإنسانية بكينونتها المطلقة ما ساعد على حفاظ الفكرة على كامل حيويتها وتألقها رغم الانتقال بالحكاية إلى مجتمع مختلف كلياً عن مجتمعها الأصلي، وما أوجبه من تبديل وقائع وشخصيات العرض بما يتناسب مع المجتمع الجديد. أما مسرحية (نابولي مليونيرة) فقد كتبها عام 1945 إثر نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة قبل أن تغيب ذكرياتها على الذين عاشوها وعانوا أهوالها ليقدم جانباً من صورة ما كان عليه الناس أيامها، وأثرها في حياتهم وتحولاتهم، وصولاً لمقولة أخلاقية ترفض تحميل الحرب كل أسباب المساوئ الشخصية للبشر، فهذه المساوئ كانت موجودة فيهم قبل الحرب.‏
حافظ المخرج حسن عويتي على بيئة النص ومعظم تفاصيله، غير أنه أكد على الجانب الأوسع من رمزية الحكاية حين بدد الاحتلال الأميركي لإيطاليا وهم الناس بالتخلص من عبء الحرب، فالحرب لم تتوقف لأن كل تبعاتها لا تزال مستمرة، ويجب انتظار الفجر حتى تتعافى الطفلة – الرمز. ولأجل ما سبق استبدل المخرج عنوان المسرحية إلى (نابولي مدينة مفتوحة)، واختار ببراعة لبداية فصلها الذي يلي دخول الأميركيين إلى نابولي النشيد الوطني الأميركي محيطاً المشاهد بالتشابه بين موسيقاه وموسيقا الأناشيد الفاشية. وختم العرض بغارة جوية بدل حديث التسامح الذي بدا في النص الأصلي كمونولوج على لسان الأب العائد من الغياب شاهداً على أهوال الحرب، وتحولات أسرته.‏
أظهر الطلاب – الممثلون كفاءة عالية في فهم شخصيات العمل وتمثلها، يستوي في ذلك الذين أدوا الأدوار الرئيسية أو الأدوار المتممة (خالد شباط، ساندي نحاس، رسل الحسين، حسام سلامة، بشار أبو عاصي، نادر عبد الحي، نور علي، غيث بركة، علياء سعيد، جولييت خوري، وليم عبدون) كما ينسحب ذلك على طلاب السنة الثانية الذين شاركوا بأدوار ثانوية (حسن خليل، ميخائيل صليبي، آية محمود، علاء زهر الدين، يوشع محمود). وتخرج بالعرض ذاته طلاب قسم السينوغرافيا (أيسر جوابرة، باسل جبلي، نارت شروخ)، وطالبي قسم التقنيات: جورج كرم (صوت)، وكنان يوسف (إضاءة). في خطوة جديرة بالمتابعة والتطوير من أجل توسيع مشاركة أقسام المعهد المختلفة في مشروع التخرج.‏
(نابولي مدينة مفتوحة) عرض جدير بالمشاهدة وبالتقدير، جدير بالضم إلى العروض المميزة والممتعة في تاريخ المعهد.‏ 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.