بقلم: راضي النماصي

ما بعد روبيرتو بولانيو: قراءة في مسار الرواية اللاتينية الحديثة

فيما ينشغل الناشرون العرب هذه الأيام بترجمة أعمال الكاتب والشاعر التشيلي الكبير روبيرتو بولانيو بعد أن تُوفِّيَ بثلاثة عشر سنة شاغلًا الدنيا والناس بما قدم، اتجه بقية العالم منذ أن أغمض عينيه للمرة الأخيرة من أجل متابعة مسار الرواية اللاتينية الحديثة، وذلك باعتبار أن أعمال بولانيو تشكل نوعًا من القطيعة بين الجيل الماضي بما ضم من أساطير[1] والجيل الحالي على مستوى اللغة والمواضيع والمعالجة.

سنحاول من خلال الفقرات القادمة استقراء المواضيع الجديدة للكتّاب الشباب هناك وتقديم قراءة لرواية جديدة جلبت الأنظار في أدب قارة البن والذهب والفودو وكرة القدم.

هل انقضى زمان الكتابة عن الديكتاتور والواقعية السحرية؟

يروي التاريخ أن آخر عهد لأمريكا اللاتينية بالحكم الديكتاتوري كان في تشيلي بعد أن تنحى بينوتشيه عن السلطة عام 1990، ولم يبق إلا سلطة راؤول كاسترو الموروثة من أخيه فيديل في كوبا. لكن بالرغم من أن رؤوس الأنظمة بجنرالاتها ورفاقهم قد تغير إلا أن الحال لا يشي بتغير مجتمعي كبير؛ فبقيت هناك مظاهر الحياة المعتادة بما فيها من فساد وبيروقراطية وتفكك على مستوى العائلات بفعل المخدرات وانتشار الأسلحة غير المقنن، وهذا ما دفع الكثير إلى الهجرة – إما إلى الولايات المتحدة أو أوروبا – في سبيل حياةٍ ومستوى معيشي أفضل.

**

إذن انقضى سعي الناس تجاه الديمقراطية بعد أن تحققت على الأرض، وتغيرت مواضيع الأدب بالمجمل من الديكتاتور والمخبرين والثوار وثيمة الحرية والبناء الروائي الذي يغطي فترات محددة إلى الحياة اليومية والفرد وشظف العيش في حكمٍ جديد وعن حياة لاتينيي المهجر وعن إعادة تعريف الكتابة وأغراضها ومآلاتها الجديدة، مما كان يستلزم من المؤلفين لغة مغايرة تسمي الأشياء بأسمائها ولا تتصف بالمواربة والتخييل الجامح والاستعارات المتوالية كما كان في السابق، وهذا – بدوره – أدى إلى صدام نقدي حد اعتبار بعض القصص الصادرة حديثًا عند بعض النقاد “غير لاتينية بما يكفي”، إلى أن ظهر بولانيو وغيَّر نظرة الوسط الأدبي العالمي تجاه قارته بأكملها. هذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود الحركات التي سبقته وناهضت الكتابة اللاتينية القديمة وأعلنت عن رؤيتها تجاه الأدب بشكل قوي خلال التسعينات، مثل حركة «ماك-أوندو» برئاسة ألبرتو فوغويت، و«مانيفستو الكوكايين» الذي أمضى عليه خمسة مؤلفين مكسيكيين شباب، وهم: خورخي فولبي – بيدرو آنخل بالو – إيلوي أوروث – إغناسيو باديلا – ريكاردو تشافيز كاستانيدا.

أتى بولانيو (1953-2003) ليقلب المعادلة تمامًا بشيء لا يشبه غيره، فرغم تعريفه لنفسه كشاعر على خطى نيكانور بارا إلا أنه قد عُرِفَ بقصصه ورواياته ذات النثر الحاد المقتضب والمتسم بالواقعية الصارمة تمامًا والتي تروى بأكثر من تقنية سردية بين فلكي الأدب والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى ما يشبه التقاطع مع سيرته الذاتية كون أغلب شخصياته روائيين وشعراء؛ مع ذكر أن الأصوات الساردة في بعض أعماله قد تصل إلى خمسين صوتًا كالموجود في رواية «رجال التحري المتوحشون»، ليلاقي انتشارًا عالميًا هائلًا بالرغم من ارتكابه جميع ما لم يُعْهَد من قبل على نصوص النثر في أمريكا اللاتينية. كانت أعماله تعلن في مضمونها عن اللا مبدأ في الكتابة، وأن جميع الخيارات متاحة في النثر ولا يوجد مكان لا ينحني للتجريب؛ فأتى ذلك بدوره على الكتّاب الجدد من جميع أنحاء القارة ليشكّل كل منهم عالمه وأفكاره تجاه ما يريد بالطريقة التي يرغبها، وهذا بدوره قد أنتج فسيفساء رائعة من الأسماء الشابة المشهورة حاليًا والمتسيدة للمشهد الأدبي هناك؛ وعلى سبيل المثال: أليخاندرو زامبرا (تشيلي)، فاليريا لويزيلي (المكسيك)، خوان غابرييل باثكيث (كولومبيا)، كارلوس لابي (تشيلي)، أندريس نيومان (الأرجنتين)، دانيال غاليرا (البرازيل).

**

«وجوه في الزحام»: مطاردة الأدباء وتعريف جديد للأدب والكتابة والحياة.

تكتب فاليريا لويزيلي (1983 – الآن) روايتها الأولى بما لا يذكرني سوى بلوحة موريتز إيشر «رسم الأيدي» التي أطلقها للملأ سنة 1948. إذ سنجد رواية ما بعد حداثية تتكون من 150 صفحة من القطع المتوسط عن أم شابة في مكسيكو سيتي وهي تحاول التوفيق بين واجباتها كأم وزوجة وكتابتها لروايتها بينما تتذكر أيامها حين كانت مترجمة تتجول في حي هارلم بنيويورك بحثًا عن آثار الشاعر المكسيكي غيلبرتو أوين الذي عاش في نيويورك خلال بدايات القرن العشرين قبل الكساد الكبير، فيما يحكي الأخير أثناء احتضاره في فيلادلفيا الخمسينات عن صداقاته بنيلا لارسن إبان تلك الفترة ولويس زوكوفسكي وفيديريكو غارثيا لوركا، وعن طيف فتاة ذات معطف أحمر كان يراها في نوافذ القطارات.

يتسم النثر في هذه الرواية بتقافز مستويات السرد الزمنية الأربعة بين المعاش والذاكرة والمتخيَّل، وكذلك بالصوتين الساردين الذين يندمجان إلى صوت واحد باستخدام عدة ثيمات؛ إذ يدخل الصوت الآخر (غيلبرتو) في البدء كشبح يُرَى في قطار الأنفاق، وبعدها يمرر في ارتجاعات ذهنية Flashbacks تعتري صوت الساردة وهي تحكي عن هوسها به ذلك الوقت إلى أن يظهر بكيانه الكامل ويتحدث عن ماضيه في ما يشبه الرواية التاريخية، فندخل ختامًا في تهويم ماتريوشكي مضاعف لكنه لا يتداخل بحيث يشتت القارئ. هل كانت الشخصية الرئيسية تبحث فعلًا عن شاعر مفقود من عصر نهضة هارلم الأدبية؟ ألا يمكن أن تكون المرأة شبحًا يتوهمه ويحلم به الشاعر الحقيقي؟ ما الذي يمنع أن يكون هناك احتمال ثالث هو أنهما شبحان يحاولان العودة للواقع بينما تجري على يديهما حكاية مؤثرة عن خلق النص الأدبي ومتاهة الترجمة والحب والفقد وعن الحياة التي نعيشها كل يوم في هذا العصر؟

صدرت الرواية بالإسبانية عام 2012، وظهرت ترجمتها بالإنجليزية التي أتمتها كريستينا ماك-سويني ببراعة عام 2014 لتعلن عن “كتاب يؤكد أن مؤلفته موهبة أدبية جديدة بشكل استثنائي” حسب صحيفة «ديلي تلغراف»، وعن “رواية مكتوبة باحتراف” حسب مجلة «باريس ريفيو» المرموقة. ومما لا شك فيه هو توصيتي بترجمة هذه الرواية الجميلة للغاية إلى اللغة العربية، وسيرافق توصيتي دعاء شخصي بالعون للمترجم لما ستمثله من تحدي على مستوى الذكاء في اللغة.

[1] حركة «بووم» الأدبية: كارلوس فوينتس، غابرييل غارسيا ماركيز، ماريو بارغاس يوسا، خوليو كورتاثار… إلخ وما قبلها مثل أليخو كاربنتييه وميغيل أنخل أستورياس وخوان رولفو؛ وإن كانت إيزابيل أييندي بين حركة «بووم» وما بعد بولانيو فإن ثيماتها لم تتغير بشكل كبير عمّن سبقها.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.