السينما النسوية السعودية تضع المجتمع أمام عيوبه

2020-01-02

في ظروف استثنائية طال أمدها ظلت شاشات السينما مغيّبة عن المملكة العربية السعودية قرابة أربعة عقود، قبل الترخيص الرسمي الذي سمح بإعادة افتتاح دور للعرض السينمائي في كانون الأول (ديسمبر) 2017، وعلى إثر هذا الترخيص افتُتحت أول سينما بالعاصمة الرياض في نيسان (أبريل) 2018، ثم أول سينما في جدة في كانون الثاني (يناير) 2019.

اقرأ أيضاً: معرض الرياض للكتاب يحتفي بالمستقبل ويكرم رواد السينما السعودية
لكن ما لا يعرفه كثيرون أنّ السينما السعودية كصناعة بدأت مبكرة، وإن بشكل خجول، فأول فيلم سينمائي سعودي حمل عنوان “الذباب” كان في العام 1950، لكن البداية الحقيقية للإنتاج كانت في فيلم “تأنيب الضمير” في العام 1966، ومنذ 1975 وحتى اليوم بلغ عدد الأفلام السعودية حوالي 260 فيلماً، معظمها تسجيلية أو قصيرة، لكن قضايا المرأة السعودية لم تكن بارزة إلى أن جاءت المخرجة السعودية هيفاء المنصور وجعلتها قضيتها المركزية لتتبعها تجارب أخرى تحمل هذا الهم.

سينما هيفاء المنصور

بدأت هيفاء المنصور مسيرتها السينمائية بفيلم تسجيلي بعنوان “نساء بلا ظل”، إنتاج 2005 وعرض في العام 2007، ويرصد واقع المرأة السعودية في ظل الحجاب وعلاقتها بالرجل ومكانتها في المجتمع السعودي، قديماً وحديثاً، ويطرح أسئلة حول عمل المرأة والزواج والاختلاط والحب، والتحول الذي طرأ على المرأة والتيارات الاجتماعية المختلفة.

في ظروف استثنائية طال أمدها ظلت شاشات السينما مغيّبة عن المملكة العربية السعودية قرابة أربعة عقود

ويخلص الفيلم إلى تراجع مكانة المرأة السعودية بعد تسعينيات القرن العشرين مقارنة بمكانتها في الستينيات والسبعينيات؛ فمثلاً لم تكن النساء الكبيرات في السن مضطرات للبس العباءة، لكن هذه المكتسبات بدأت بالتراجع مع نهاية السبعينيات، ومع مطلع الألفية الثالثة أصبحت الأغلبية مع إبقاء الفتاة حبيسة المنزل، والعنوان يحيل بلغته الشعرية إلى أنّ بقاء النساء في البيوت وحرمانهن من الشمس يجعلهنّ بلا ظل، كما قد يحيل “الظل” إلى الرجل في العبارة الشهيرة “ظل راجل ولا ظل حيطة”.

وجهان لحواء

تُغير هيفاء المنصور من أدواتها لكنّها لا تتخلّى عن قضيتها، وهي تدرك أنّ الدراما أكثر تأثيراً من الفيلم التسجيلي، ولا يوجد ما هو أكثر تأثيراً من قصة يتعاطف معها الناس وهذا ما تحقق في أول أفلامها الروائية “وجدة” العام 2012، الذي يتناول التمييز الذكوري ضد المرأة كموضوع محوري إضافة إلى تناوله مواضيع هامشية كزواج القاصرات، ويتخذ الفيلم من الطفلة وجدة (وعد محمد) وأمها (ريم عبدالله) وجهين لحواء: وجه الأم التي تُسيرها العادات والتقاليد ووجه الطفلة العنيدة والمتمردة والمعتمدة على نفسها، ومن خلال هذا الوجه يتم تمرير صورة جديدة للمرأة السعودية والعربية.

يوجه فيلم وجدة لهيفاء المنصور نقداً للنظام الاجتماعي والتعليمي القائم على القمع والتشدد الديني

تحلم وجدة بشراء دراجة معروضة في أحد متاجر الألعاب، لكي تتسابق مع ابن جيرانها، لكنها لا تملك المال الكافي لذلك، وهذه عقبة أولى ستتغلب عليها بتوفير مبلغ من المال وبالمشاركة في مسابقة مدرسية لحفظ القرآن الكريم من أجل الفوز بجائزة مالية، أما العقبة الأكبر فهي حظر ركوب الدراجات على الفتيات لأسباب تتعلق بحمايتهن في الظاهر، لكن وجدة لا تعطي لتحذيرات أمها وتعليمات مديرة المدرسة وتنبيهات ابن الجيران بالاً وتتصرف وفقاً لما تحلم به وتطمح إليه.

تُغير هيفاء المنصور من أدواتها لكنّها لا تتخلّى عن قضيتها

تُغير هيفاء المنصور من أدواتها لكنّها لا تتخلّى عن قضيتها


تتضح شخصية الأم الراضخة لثقافة المجتمع وشخصية ابنتها المتمردة في المشهد الثالث عندما تصمت الأم أمام توبيخ السائق الباكستاني لها بسبب تأخيرها المستمر، فترد عليه وجدة بلهجة حادة فتطلب الأم من ابنتها أن تصمت، يضعنا الفيلم منذ البداية أمام تخمين الشخصية التي ستؤول إليها وجدة عندما تكبر: هل ستكون نسخة أخرى من أُمها؟ أم أنّها ستتمرد على هذا الوضع؟ وهل ستكون الأم قدوة لابنتها أم العكس؟

اقرأ أيضاً: أخيراً.. السينما في السعودية
تنشغل الأم في العناية بمظهرها والتجمل لزوجها حتى لا يرضخ لأمه فيتزوج بامرأة أخرى، ونرى كيف أنّ علاقة وجدة بجارها الطفل عبدالرحمن علاقة طبيعية بريئة يتخللها اللعب والمزاح ولم تتلوث بعد بالثقافة التي تُعامل المرأة بدونية؛ يتسابق الطفلان جرياً في طريقهما إلى المدرسة فتسبقه وجدة فيلجأ عبدالرحمن إلى وسيلة سباق لا تملكها وجدة. يعود إلى البيت ليحضر دراجته ويلحق بوجدة قائلاً لها إنّها لا يمكنها اللحاق به الآن، فترد عليه وجدة متحدية: “والله ليصير عندي سيكل أوريك”.

أول فيلم سينمائي سعودي حمل عنوان “الذباب” كان في العام 1950

المدرسة، كما تظهر في الفيلم، وسيلة لقمع الفتاة ومحاربة كل ما هو جميل. والمرأة “نجسة”، كما تعبر إحدى المدرّسات، والضحك ممنوع على الفتيات بحجة أنّ صوت المرأة “عورة”، الورود والصور والأحذية الملونة وطلاء الأظافر كله ممنوع.
يوجه الفيلم نقداً لنظام التعليم في المدارس القائم على التلقين والقمع والضغط الديني منذ المشهد الأول، هذا التمهيد يشير إلى أنّ القضايا في مشاهده اللاحقة ناتجة عن النظام القائم على الفرض والإجبار، وهو ما تكرهه وجدة وتسعى للتحايل عليه، ولذلك نجدها في المشهد التالي تستمتع بالموسيقى وبترتيب حاجياتها الصغيرة.
توفر وجدة ثمن الدراجة من بيع أساور تصنعها بنفسها من الخيوط، وهنا نرى صورة للاستقلالية والاعتماد على النفس، وكل عوامل بناء الشخصية القوية التي نشاهدها خلال قصة الفيلم تقول بلغة فنية جميلة: لا يمكن للمرأة أن تكون مستقلة ومالكة قراراتها وهي تعتمد على الرجل في كل شيء، لا ترى وجدة فرقاً بينها وبين الولد الذي يحلم والدها بإنجابه بالزواج من امرأة أخرى. وإحدى محاولاتها لتغيير هذا الواقع هي كتابة اسمها في ورقة ولصقها بشجرة العائلة المكونة كلها من أسماء ذكور، لكنها تجد الورقة وقد نُزعت في اليوم التالي.

المرأة هي قضية هيفاء المنصور حتى حين أخرجت وشاركت في كتابة فيلم “ماري شيلي” 2018، الذي يتناول قصة ماري وهي في السادسة عشرة ونضالها ضد التمييز الذكوري الذي أعقب كتابتها لرواية “فرانكشتاين”، وفي فيلمها “نابيلي إيفر أفتر” 2018 تتناول قصة امرأة أمريكية أفريقية تحاول تحقيق أحلامها في المجتمع الأمريكي.
وفي فيلمها “المرشحة المثالية” الذي عُرض في آب (أغسطس) 2019، تعود هيفاء المنصور للمجتمع السعودي لتروي قصة طبيبة سعودية شابة تسعى إلى تغيير نظرة المجتمع للمرأة من خلال ترشحها للانتخابات المحلية، ويتطرق الفيلم لقضية عمل المرأة والتمييز على أساس الجنس.
“سيدة البحر”.. نقلة أخرى

النقلة النوعية للسينما السعودية في فيلم “وجدة” تلتها قفزة أخرى صنعتها المخرجة الشابة السعودية شهد أمين في فيلمها “سيدة البحر” في أيلول (سبتمبر) 2019، وهنا يتجاوز إبداع المرأة السعودية قضايا بنات جنسها لينقل السينما السعودية إلى العالمية؛ فقد حصل فيلم وجدة على ثلاث جوائز عالمية خلال مهرجان البندقية السينمائي التاسع والستين، واختير ضمن الترشيحات الأولية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، ليصبح بذلك أول فيلم سعودي يصل إلى هذه المرحلة.
أما “سيدة البحر” فشارك في مهرجانات عالمية بارزة في لندن ولوس أنجلوس والقاهرة وقرطاج والرباط، ومازال ينافس على جوائز ويحصد بعضها مثل فوزه بجائزة أفضل فيلم في مهرجان سينغافورة المسابقة الرسمية وجائزة التانيت البرونزي في مهرجان قرطاج، وفي عرضه العالمي الأول حصل الفيلم على جائزة فيرونا للفيلم الأكثر إبداعاً ضمن مسابقة أسبوع النقاد خلال فعاليات النسخة السادسة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.

من الواقعية إلى الرمز والأسطورة

في تجربتها الأولى تستوحي شهد أمين من أسطورة أقدم عن حوريات البحر لكن بتوظيف ذكي لصالح قضية محلية لا تخص المرأة السعودية فحسب وإنما المرأة المقموعة في أي مكان. ويحكي الفيلم قصة فتاة صغيرة تقرر اختيار حياتها بنفسها وسط مجتمع ذكوري يرمي المولودات في البحر ليكبرن ويعاد اصطيادهن والتغذي على لحومهن.

اقرأ أيضاً: طريق المرأة السعودية لقيادة السيارة.. ثماني محطات أساسية
يظهر تمرد الفتاة على هذا الوضع منذ ميلادها؛ فبعد أن يلقي بها والدها في البحر وهي في القماط يعيدها الموج إلى الشاطئ ليحملها الأب إلى البيت، لكنها تبقى خلال سنوات طفولتها محل ازدراء سكان قريتها إلى أن تثبت لهم أنّها قادرة على العمل مثل الذكور وتكون لها فائدة أكبر منهم؛ فتعمل الفتاة على ظهر القارب وتغوص في البحر للصيد، وعندما تقفز إلى البحر ذات مرة تختفي لفترة طويلة فتختفي معها الحياة: يجف البحر ويعاني الناس من الجوع، لكن الفتاة تعود مرة أخرى، وبعودتها تعود مياه البحر ليدرك الناس قيمتها وقيمة الأنثى.

توظف شهد أمين أسطورة حوريات البحر لصالح قضية محلية لا تخص المرأة السعودية فحسب

تمرد الفتاة في “سيدة البحر” يذكرنا بتمرد وجدة، لكن الفتاة هنا بلا اسم، مثلما أنّ المكان الذي تدور فيه الأحداث جزيرة متخيلة، وطمس المعالم هنا مقصود لأغراض رقابية ورمزية لا تربط القصة بزمان ومكان محددين، وبقدر ما أنّ القصة مستوحاة من أسطورة اسكندنافية إلا أنّها تذكرنا بوأد الفتيات قديماً، وكأن الأسطورة في الفيلم تحيل إلى أسطورة دينية عربية أقدم لتعبر بذلك عن وضعية تاريخية، لم تنته للأسف، لا عن وأد حقيقي بدفن الفتيات في التراب أو في البحر.
المرأة في قصة الفيلم مصدر للعار، وهي في الوقت نفسه مصدر للخير والحياة. ويبدو، من منظور الرجل، أنّه ما من سبيل إلى معادلة وسط تضمن حياة المرأة والرجل معاً، لكن هذه المعادلة تحققها الطفلة في النهاية بعودتها وإعادتها للحياة.

من منظور القضية يمكن أن نرى في فيلم “سيدة البحر” نسخة أخرى من فيلم “وجدة”، لكن الفارق بين الفيلمين من حيث الصورة واضح، القضية في أفلام هيفاء المنصور مقدمة على الصورة، بينما تأتي الصورة والرمزية على حساب القضية في تجربة شهد أمين، مدة فيلم وجدة (ساعة ونصف) تناسب أحداثه، هي نفس مدة فيلم سيدة البحر لكنه طويل قياساً إلى أحداثه، ويجمع بين الفيلمين قضية واحدة هي اضطهاد المرأة والتمييز الذكوري ضده.
“وجدة” واقعي معاصر وفيه حبكة من خطين متداخلين: قصة رئيسية عن وجدة وقصة ثانوية عن أمها، بينما يتجنب فيلم “سيدة البحر” خيوط القصة التقليدية، ويعتمد على الرمزية الكامنة في أسطورة عروس البحر، ويخرج مُشاهده بعلامات استفهام كثيرة تتعلق بموضوع الفيلم وهدفه؛ فالجمالية البصرية، المتأثرة بأسلوب بيلا تار، تأتي على حساب الهدف الاجتماعي.

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.