رغم قسوة الحياة.. لماذا يتجه الإنسان للفن؟

رغم قسوة الحياة.. لماذا يتجه الإنسان للفن؟

مها فجال

انتشرت القصة بين فتيان بلدة مونتنياك الفرنسية عن وجود نفق سري يقود إلى كنز مدفون تحت الأرض. ومارسيل، الفتى المُغامر، لم يكن ليدع أحدًا يسبقه إليه. مع أول شعاع شمس اخترق السماء، استيقظ مارسيل في أحد أيام (أيلول/سبتمبر) 1940 وذهب للوادي يبحث عن الكنز. سار الفتى طول اليوم دون أن يجد شيئا، وعندما شعر بالتعب يُثقل جسده وكاد اليأس أن ينال منه، إذا بنفقٍ لم يكن قد رآه من قبل يلوح في الأفق.

نزل الفتى داخل النفق ليجد نفسه بكهف مظلم. أخذ قلبه يدق بحماسة، فالآن سيشعل كشافه الصغير ولعله سيجد نفسه واقفًا وجهًا لوجه أمام الكنز. لكن، عندما بدد الكشاف ظلام الكهف، لم ير مارسيل الكنز.  ما رآه كان أغرب بكثير، تركه مسلوب الأنفاس وعيناه تكاد تنكر ما أبصرت. ركض مارسيل سريعًا خارج الكهف، وبعدها بعدة أيام، اصطحب أصدقاءه الثلاثة جاك وجورج وسيمون معه ليريهم ما رأى. (1) وجد الصبية الأربعة أنفسهم أمام رسومات كبيرة الحجم لحيوانات انقرض بعضها، رسومات تكاد تدب فيها الحياة، إذ بدت ألوانها وكأنها رُسمت البارحة فقط، حيث أظهرتها الخطوط الدقيقة وتعرجات سطح الكهف وكأنها تتحرك. اتفق الفتيان على إبقاء الكهف سرًّا بينهم لا يُفصحوا به لأحد، لكنهم عجزوا عن كتمان أمره طويلًا، وسرعان ما انتشر خبره بطول البلدة وعرضها.

حرك الفضول الكثيرين ليروا تلك الرسومات العجيبة التي ذاع أمرها. ومن هؤلاء، كان عالم الآثار الفرنسي هنري بروي. عندما رأى بروي الرُسومات، أدرك أن عيناه وقعتا على شيء جلل. أخبره حدسه لحظتها أن من رسموا تلك الرسومات عاشوا من آلاف السنين، قبل بداية التاريخ، أقدم من أقدم حضارة. وقد كان مُحقًا. على الفور بدأ العلماء في دراسة الكهف. اكتشفوا أن عدد الرسومات على جدرانه حوالي 600 رسمة، تتراوح أعمارها من 15,000 لـ 17,000 عام، وتُصور معظمها حيوانات مُتنوعة كانت مُنتشرة في تلك الحقبة الزمنية كالأحصنة والضباع، والغزلان، ووحيد القرن. تيمُنًا بالمنطقة التي اُكتشف بها، عُرف الكهف بـ “كهف لاسكو”. (2, 3)

لم يكن كهف لاسكو الوحيد الذي ضم تلك الرسومات، ففي السنوات التي تلت العثور عليه مُصادفة، تم اكتشاف حوالي ثلاثمئة كهف يحتوي على أعمال فنية تعود للعصر الحجري المُتأخر بجنوب فرنسا وشمال إسبانيا، ويُعد كهف “شوفيه” هو أقدمها على الإطلاق، حيث تعود رسوماته لـ 30,000 سنة قبل الميلاد.

أصداء لصوت انطلق من أعماق الزمن
لم تتوقف رعدة الذهول لرؤية تلك الرسومات المطمورة في أغوار السنين عند مارسيل وأصدقائه، بل سرت في روح كل من وقعت عليها عيناه. تصف الكاتبة كارين أرمسترونج على لسان أحد ممن رافقوها في رحلتها إلى لاسكو شعوره عند النزول إلى الكهف وتقول: “فجأة، تشعر وكأن حواسك غير موجودة. تُمحى آلاف السنين.. تجد أنك لم تخبر في حياتك ظلمة أشد ظلامًا. لا أدري..كانت إرباكًا كليًا. لا تعرف ما إن كنت تنظر شمالًا، جنوبًا، شرقًا أم غربًا.. تختفي كل الاتجاهات وتجد نفسك في ظلام لم ير شمسًا أبدًا. وحينما يخبو الوعي المُعتاد بضوء النهار، يشعر المرء بانفصال لا زماني عن جميع اهتمامات ومُتطلبات العالم العُلوي الذي خلفه وراءه.”(4)

ويقول عالم الآثار جوليان موني عن كهف شوفيه: “عند مجيئي للكهف للمرة الأولى، أُتيحت لي فرصة أن أزوره كل يوم لخمسة أيام. تركت تلك الأيام أثرًا قويًا عليّ، ففي كل ليلة، أخذت تظهر لي أُسود في الحلم، وفي كل يوم أعود للصدمة ذاتها. كانت صدمة عاطفية. أنا عالم، لكني أيضًا إنسان.”(5)

ومع هذا، فكل من زاروا الكهوف لم يروا الرسومات تمامًا كما رآها مُبدعيها قبل آلاف السنين. فإضاءة المصابيح الصناعية الحديثة تختلف بشكل كبير عن مشاعل الرسامين البدائية، والتي اعتمدت بشكل أساسي على دهن الحيوانات ونتج عنها ضوء أكثر خُفوتًا من ضوء الشموع.

رسومات من كهف لاسكو (مواقع التواصل)

على هذا الضوء الخافت كان تأثير الرسومات أكثر درامية، فبدت الحيوانات المرسومة وكأن الروح تدب بأوصالها، وكأنها على وشك أن تقفز من جدران الكهف إلى الوجود. ساهم رسمها بشكل يوحي بالحركة على إضفاء ذلك الإحساس عليها، كما وظف الرسامون تعرجات السطح لهذا الغرض. وفي كهف شوفيه، وجد العلماء آثار لمُحاولات أولى لرسم الظلال والمنظور، ما أصابهم بدهشة بالغة، فمن كان ليصدق أن أُناس ينتمون للعصر الحجري قد استطاعوا في مرحلة ما استخدام تقنيات متطورة في الرسم؟

رسومات خيول من كهف شوفيه (مواقع التواصل)

تناولت الرسومات في معظمها حيوانات من النوع الآكل للعشب، وتكررت بعضها كالأحصنة في الكثير من الكهوف، بينما انفرد كهف شوفيه بتصوريه لحيوانات مُفترسة كالأسود. غابت الكثير من الحيوانات غياب شبه تام عن جدران الكهوف منها الزواحف والأسماك. لا أحد يعلم لماذا بالتحديد اختار الرسامون حيوانات بعينها ليصوروها وأهملوا البعض الآخر.

كان أكثر ما أثار استغراب العُلماء هو غياب تصوير الرسومات للبشر بنفس الشكل الدقيق الذي صوروا به الحيوانات، فنادرًا ما احتوت الرسومات على أشخاص، وفي الأحيان القليلة التي وجدوا لهم رسومات، جاء رسمهم بدائيا.

رسمة تتضمن رجل برأس طائر.. من اللوحات القليلة التي صورت بشرا (مواقع التواصل)

الأثر الإنساني الأكثر اكتمالًا الذي تركه الرسامون كان لأيديهم. فكما يمضي الفنان على لوحته بعد إنهائها، وجد العلماء بالكهوف أيادي الرسَّامين وقد طبعوها على الجدران. لا أحد يعرف حقًّا لماذا فعلوا هذا، لكن الأكيد أن آثار أياديهم تلك نجت من عواصف الزمن لتبقى لنا، صدى لوجود أصحابها اخترق سياج السنين.(6)

أيادي الفنانين (مواقع التواصل)

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان
ظلَّ السؤال الأكبر الذي شغل العُلماء منذ اكتشاف لاسكو وإلى الآن هو: لماذا؟ ماذا عساه يكون ذلك الشيء الذي دفع بأشخاص يعيشون حياة قائمة على الخطر للغوص في أعماق كهف مُظلم وقضاء أيام طوال بجوفه يرسمون على جدرانه؟ ما الذي جعلهم يُبددون مواردهم الثمينة من دهن الحيوانات الذي استخدموه في الإضاءة والذي كان يُمكنهم التغذي عليه بدلًا من هذا؟ ما هو الدافع لإنفاق الكثير من الوقت والجهد في نشاط لا علاقة له بصراعهم الدائم للبقاء؟

تعددت التأويلات لهذا، وظهر ما يدحض بعضها لتظل البقية قائمة دون أن ينال أحدها إجماع العلماء. تقول إحدى النظريات أن الكهوف والرسومات كانت جزءا من مراسم سحرية لجلب الحظ أثناء الصيد، واقترح البعض كون تلك اللوحات مرسومة من قبل شامانات* مُنتشين استخدموها للتواصل مع عالم الأرواح، بينما أظهرت دراسة حديثة أن الكفوف المطبوعة على الجدران يعود معظمها لصبية تتراوح أعمارهم من عشرة لستة عشر عامًا.(7)

لن نستطيع أبدًا أن نصل لإجابة قاطعة، فالكهوف المُزدانة بتلك الرسومات ليست سوى قطعة صغيرة من فُسيفساء ابتلعت القرون كل أجزائها الأخرى ومنعتنا للأبد من رؤية الصورة كاملة. وبالرغم من هذا، فقد ألقت الرسومات الضوء على طبيعتنا الإنسانية. فحتى إنسان العصر القديم الذي ظننا طويلًا أن البقاء على قيد الحياة كان شغله الشاغل، تخلى عن صراع البقاء المحموم لبضعة أيام واختلى بنفسه في الكهوف يرسم.

اعلان

ربما السؤال إذن عن لماذا عزل بعض الأشخاص أنفسهم عن الحياة والعالم في عصور موغلة في القدم تاركين معركة البقاء المُحتدمة في سبيل خلق الفن لا يختلف كثيرًا عن سؤال لماذا لا زلنا نفعل الشيء نفسه الآن؟ وبالرغم من هذه الأسئلة واختلاف الإجابات حولها، ستظل تلك الكهوف الطافية فوق متاهات الزمن خير شاهد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.