مكة تكتب “تاريخ الخط العربي وآدابه” قبل 77 سنة

مكة تكتب “تاريخ الخط العربي وآدابه” قبل 77 سنة
أ.حسن محمد شعيب

image
لم يرتبطْ فنٌ بالقداسةِ والخُلود كما ارتبطَ الخطُ العربي الذي جمَعَ الشرفَ من أطرافِهِ بانتسابِهِ إلى أفصحِ لغاتِ الأرضِ وأرقاها في الفصاحةِ والبيان ؛ كونها لغة القرآن الكريم وحرْفُه المُعجِز المُبين المُنْزَل على رسولنا العربيّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، حمَلَ من أسرارِ الإعجازِ رَسْماً لا تزيدُهُ الأعْصُرُ والأزمانُ إلا رُسُوخاً وسِحْراً يَفتنُ العَيْنَ ويُرقّقُ الوِجْدَان .

ولمّا كانتْ قِبلةُ الدنيا منزلَ الوحي ومُستودَعَ كتابتِهِ وجمعِه ونشرِه بين الأمصار التي تفنّنَتْ في رَسْمه ونَقْطِه وشَكْلِه حتى بلغتْ فيه آياتِ الجَمال ؛ كان لابدّ لهذا الفنّ من بَعْثٍ جديد على يدِ خطاطٍ مكيٍ يؤصّل تاريخه ويخلّدُ أعلامَه ويكشفُ للمهتمّين أخبارَه ويُجَلّي عجائِبَهُ وأسرارَه ؛ فكان خطاطنا المكي المؤرّخ والمفسّر والأديب محمد طاهر بن عبد القادر الكردي ( 1321-1400هـ ) وكان كتابه ( تاريخ الخط العربي وآدابه ) المطبوع في طبعته الأولى عام 1358هـ وفي طبعته الثانية المزيدة عام 1402هـ .

كان لدراسة الكردي في الأزهر الشريف بمصر – عام 1340هـ لمدة سبع سنين – أثرُها عليه حين التحق بمدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية ؛ فبرع وتخرّج منها خطاطاً معتمداً في الخط العربي والزخرفة والتذهيب ، واتصل خلال دراسته هناك بكبار الخطاطين المصريين والأتراك ، واطلع على عظيم مؤلفاتهم مما ندر وجوده لدى غيره ؛ فكان أن اجتهد في وضع كتابٍ يؤرّخ فيه للخط العربي استغرق إعداده والرجوع إلى مصادره – العربية والتركية النادرة – ثلاث سنوات أنتجت هذا المصنّف الضخم الفخم شاهداً على عَرَاقةِ هذا الفنّ وعلى تمكّن المؤلف معرفةً وفناً ؛ حيث كانتْ عناوينُ المباحث والموضوعات بخطّ يدِه وبعض اللوحات من إنشائه بكل أنواع الخطوط التي أبدعَ فيها أيّما إبداع .

يتكوّن الكتاب من مجموعة من المباحث فلم يقسّمه المؤلف إلى أبواب وفصول ، ولكنها مع ذلك جاءت جامعةً مانعةً كما يعرّف بها في أولى صفحاته بخطه الجميل إذ يقول : “كتابٌ يبحث عن تاريخ الخط العربي قبل الإسلام وبعده ، وانتشاره بين الأمم ، وعن اللغات التي تكتب به ، وعن دخول الخط في الحرمين الشريفين ، وعن أطواره وتدرّجه في التحسين ، وعن أسماء الخطوط القديمة والحديثة ، وعن واضع كل نوع منها ، وعن علة تسمية الأقلام ، ومقاساتها ، وعن ما يوجد من الخطوط والآثار القديمة ، وعن أسماء من يعرف الكتابة على الحُبُوب ، وعن أسماء الخطاطين وطبقاتهم من أهل الحجاز الأفاضل وغيرهم من بَدْءِ الإسلام إلى يومنا هذا ، وعن سلسلة الخطاطين وسَنَدِهم ، وعن تاريخ ظهور تشكيل الحروف وتنقيطها ، إلى غير ذلك من المباحث والفوائد القيمة”.

تبلغ صفحات الكتاب في طبعته الثانية 552 صفحة بزيادة أكثر من 80 صفحة عن الطبعة الأولى كان معظمها تراجم أضافها المؤلف ؛ فنصْفُ الكتابِ أصلاً تراجمُ للخطاطين بصُورهم الفوتوغرافية ونماذج من خطوطهم ، وقد اجتهد فيه المؤلفُ اجتهاداً عظيماً جعل كل من كتب في تاريخ الخط العربي بعدَهُ عَالَةً على كتابه .

حوى الكتابُ مَباحثَ كثيرةً حول الكتابة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وتاريخ التشكيل والنقط ، والورق والأقلام ، وأنواع الخطوط العربية بشكل مفصّل بالصور ، والكراريس العربية في الخط العربي ومشاهير خطاطيها ، ولعل من أعجب المباحث مبحثٌ بعنوان ( فلسفة الخط وأسراره ) تعرّضَ فيه المؤلفُ لبعض ما يُعرف الآن بعلم الجرافولوجي ( تحليل الشخصية عبر خط اليد ) بشكل بدائي مبسّط في مباحث مثل : تأثّر الكتابةِ بتأثّر الكاتِب ، اختصاصُ الخطّ بالرجالِ دُونَ النّساء ، ارتباطُ سُرُورِ النّفْسِ بجَمَالِ الخَط ، عدمُ وُجود شخصيْن تتشابَهُ خطوطُهما في جميعِ الحُرُوف .

وتناول أيضاً مباحثَ أخرى في إبداعِ اللغةِ العربيةِ في جمالِ خطّ حُرُوفها ، والعناية بكتابةِ المُصْحَفِ الشَريفِ عبْرَ التاريخ ، وتاريخِ كتابتِهِ ، واستعراضِ الخطوط المكتوبةِ على الآثارِ الحَجَريّة القديمة .

ولعل أهم المباحث بالكتاب ( سلسلةُ الخطاطين وسَنَدُهم ) الذي تناول المؤلفُ فيهِ السَّنَد التّركي والسَّنَد المِصْري في الخط فقط ؛ حيث أثبتَ لتعلّمِ الخط العربي مَشائِخَهُ الذين يُؤخَذُ عنهُمْ بالسند المتصل بأهلِهِ كاتباً عن كاتبٍ عَبْر سِلْسلةٍ من كِبَارِ الخطاطين والكَتَبَة حتى عهد التابعينَ والصَّحَابةِ الكِرام رضوان الله عليهم ، ولمّا كان المؤلفُ مُتَّصِلَ السَّنَدِ في هذا الفن ؛ فتجده يثبتُه هنا عبر مشائخه فيه ؛ فيذكرُ في سنده التركي أخذَهُ عن شيخهِ الخطاط التركي محمد عبد العزيز الرّفاعي ، والذي أخذ عن شيخه الخطاط الحاج أحمد العارف الغلبوي .. وهكذا حتى ينتهي السند – بعد ذِكْر 37 شيخاً خطاطاً – إلى سيدنا علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) عن بشر بن عبد الملك وحرب بن أمية اللذين ينتهي عندهما سَنَدُ الكَتَبَة الخطاطين ، وقد ذُكر الكرديُّ في هذا السَنَد من الخطاطين المشهورين : ياقوت المستعصمي ، وعلي ابنُ البواب ، والوزير ابنُ مقلة وغيرُهم من أعمدة الخط العربي المعروفين ، وفي السند المصري يأخذُ الكرديُّ عن الخطاط محمد أفندي إبراهيم ، عن عن .. حتى ينتهي إلى ما ذكر سابقاً من مشائخ السَنَدِ التركي .

وتحتلّ التراجمُ نِصْفَ صَفَحَاتِ الكِتاب ؛ حيثُ سَرَدَ أسماءَ الخَطّاطينَ بمِيلادهم ووفيّاتهم – قدر الإمكان – منذُ بَدْءِ الإسلامِ إلى عَصْرِ المُؤلِّف ، مُصَنِّفاً لهُم إلى ثلاثةِ أقسامٍ : الخطاطينَ من السلاطين والوزراء والباشوات ، الخطاطين من العلماء ، النساء الخطاطات ، ثم يسرد بقية الخطاطين – والخطاطات أحياناً – مُرَتّبين على حروف الهجاء ؛ ليجاوزوا مُجْتمِعينَ 1000 خطاطٍ ، تَرْجَمَ منهُم لنَحْوِ 341 خطاطاً وخطاطةً ، منهُم 13 خطاطاً من الحجاز ( ترجم المؤلفُ لنفسِهِ مَعهم ) ، إضافةً إلى 36 من مشاهير الخطاطين المعاصرين من مشائخهِ ، ثم أضاف 14 ترجمةً أخرى لخطاطين لم يُذكروا بالطبعة

الأولى للكتاب ، واستكتبَ فيهم المؤلفُ مَنْ يَعْرفُ مِنْ خطاطي العراق ومصر والشام المعاصرين له ، فبعثوا بأسماءِ قَوائِمَ خطاطيهم وبعض تراجمهم التي كتبها بعضُهُم بقَلَمِه .

وكانتْ خَاتِمَةُ الكِتابِ في عِدّةِ مَباحثَ عَنْوَنَ لها المُؤلفُ بفَوَائِدَ عَامَة ذَكَرَ مِنْهَا : علامات التَرقيم ، إرشادات لمُتعلِّمي الخط ، وآثار أدبيّة في تعلِيمهَ ، ووَصْفٌ للكتابة وأدواتِها ، وآدابُ كتابةِ القرآنِ الكريمِ ، وعِدّةُ مَا كُتِبَ مِنَ المَصَاحِف .

* مِن آخِرِ السّطْر :

هذا الكِتَابُ الرّائِدُ تُحْفةٌ فَنيّة وثقافية في مَوضُوعِه ، ومَفْخَرَةٌ لخَطّاطِي مكة المكرمة والمملكة عامةً ، فبَعْدَ مُرُورِ أكثرِ مِنْ 33 سنةَ على طَبْعَتِهِ الثانية ونَفَادِ نُسَخِها بل نُدْرَتِها ؛ ألا يَستحِقُّ إعادَةَ طَبْعِهِ طِبَاعَةً فاخرةً تَلِيقُ بهِ ؟! تَسَاؤُلٌ ورَجَاءٌ أضَعُهُ أمَامَ وزارة الثقافةِ والإعلامِ ، والجمعيّةِ العلميّةِ السعوديةِ للخطّ العربيّ بجَامعةِ أمِّ القُرَى .

وكتبه في 21 رجب 1435هـ

[email protected]

image

image

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.