فيلم “العائد” يستنطق عقدة أميركا التي لاتبارحها

فيلم “العائد” يستنطق عقدة أميركا التي لاتبارحها

محمد جبار

كما كان متوقعاً ، لم يستطع ممثل آخر أن ينافس الممثل” ليوناردو دي كابريو” على جائزة الأوسكار ، كما لم يستطع أحد أيضاً منافسة المخرج” أليخاندرو جونزاليس” صاحب أوسكار أفضل مخرج في الدورة السابقة بفيلم “الرجل الطير” ،وهو أصبح بذلك ثالث مخرج في تأريخ السينما يفوز بالجائزة في سنتين متتاليتين بعد جون فورد (1941 و1942) ، وجوزف مانكيفيتش (1950 و1951)، كذلك  حصل الفيلم على جائزة أفضل تصوير ، ثلاثة جوائز مهمة فاز بها فيلم “العائد” هذا العام بعد أن كان قد حظي بحصة الأسد ب”12″ ترشيحاً ،  وتدور أحداث الفيلم في القرن الثامن عشر حيث حرب التطهير العرقي للهنود الحمر على أوجّها ، وهو عن قصة حقيقية تم صياغتها على شكل رواية بعنوان” العائد ” عام 2002 للكاتب “مايكل بونك” ، وكان قد أخرج هذه القصة التي تُعدّ من الفولوكور الأميريكي ” ريتشارد سرافيان” بفيلم حمل عنوان “رجل في البرية” عام  1971 .

الصراع المميت

تتحدث قصة الفيلم عن هيو غلاس “ليوناردو دي كابريو” الذي يرافق مجموعة مع الصيادين ، ويواجه خطراً من قبل الإنسان ،والحيوان ،والطبيعة ، وحتى ذاته المتعطشة للإنتقام ،  فيتغلب على الجميع ، في رحلته الشاقة بعد عودته من الموت ،فأول لقطة من الفيلم تكون لوجه “غلاس” وكذلك آخر لقطة منه  فهو القيمة الأولى والأخيرة ، وبين تلك اللقطتين القريبتين جداً له ، تقع أحداث الفيلم الذي بلغت مدته الساعتين وخمس وعشرين دقيقة ، يواجه فيها بطل الفيلم مايواجه من مصاعب ،ومشاق.

يبدأ الفيلم بمشاهد أشبه بالحلم ل”غلاس” الذي ينام بأمان مع عائلته  ، يصاحب اللقطة صوته ، وهو يوصي إبنه بالصبر ،وعدم الإستسلام مادام يستطيع التنفس، ثم تتخلل المشهد لقطات لكوخه المحترق ،وزوجته المقتولة “وهي من الهنود الحمر ” وهو هنا يبدأ بعقدة أميركا الأولى ، والكبيرة ، وهي حربهم مع الهنود الحمر ، و التطهير العرقي الذي مارسوه ضدهم  ، فهو يفقد زوجته ، ثم ولده التي تغلُب عليه سحنة والدته ،فيموت بسبب شكله فيما بعد ، ويتسيد في الفيلم شريعة الغاب ، فالجميع يمثلوا دور الصيادين ،والطرائد في ذات الوقت ، فحينما يكون الهنود الحمر طرائد الأمريكيين البيض للقضاء عليهم ،والإستيلاء على أراضيهم، يكون البيض أنفسهم  صيداً سهلاً  للهنود في رحلتهم لإصطياد الحيوانات طمعا في فراءها ،في الوقت الذي يقتل الهنود بعضهم بعضاً للإنتقام لثارات سابقة ، كذلك يسقط الصياد “هيو غلاس” بيد الدب بعد أن كان طريدته ليهاجمه ، ويكاد أن يقتله لولا دفاع “غلاس” المستميت عن نفسه ، ومن حادث هجوم الدب  تبدأ قصة الفيلم ،فيتحول “غلاس” الى عالة على المجموعة الهاربة من الهنود الحمر الذين يطاردنهم لأنهم يعتقدون أنهم خطفوا إبنة رئيس القبيلة فيضطرون الى تركه بمعية ثلاث صيادين أحدهم ولده للاعتناء به ، ولدفنه بطريقة تليق به بعد موته  بعد أن يُغري رئيس المجموعة الكابتن “بريدجر” من يبقى الى جانبه بحصة إضافية من النقود فيوافق فيتزجيرالد “توم هاردي” وفتى  يدعى بريدجير “ويل بولتر”، لكن فيتزجيرالد يستعجل موت “غلاس” ليدفنه حياً بعد أن يقتل إبنه ، و يهرب، لكن “غلاس ” ينجو فيقرر  حينها أن يعيش لينتقم لولده ، فيقاتل من أجل ذلك قتالاً شرساً مع كل الصعاب التي تواجهه ففكرة الإنتقام تعطيه دافعاً مضاعفاً للحياة ،لكنه يعزف عن فكرة الإنتقام بعد أن يظفر بغريمه بعد معاناة كثيرة ، فيتركه ليسقط بيد الهنود الحمر ليغرسوا سكين إنتقامهم فيه ، فهو يعطيهم فرصة الإنتقام من رجل أبيض ، فيشفي غليله فولده المغدور “نصف هندي” ، وهو يعطي لهؤلاء فرصة الإنتقام بدلاً عنه.

مشاهد مذهلة

تعتمد ثيمة الفيلم على المصاعب ، والمعاناة التي يواجهها “غلاس ” في رحلته نحو الإنتقام ، لذلك كان على المخرج  “أليخاندرو جونزاليس” أن يبحث عن الأماكن الأكثر قسوة للتصوير فيها ،وكان على “دي كابريو ” أن يتحمل إختيارات المخرج التي تخرج في أحيان كثيرة عن المألوف ،فكان التصوير  بدرجات حرارة دون الصفر المئوي في جبال كندا والأرجنتين، ليس في الأماكن فحسب بل في الأحداث فتدحرج ” دي كابريو”   على سفوح ثلجية، وغاص في أنهار متجمدة، وزحف على أرضية غابات تغمرها الطحالب، وتمرغ في الوحل وغرس أسنانه في سمكة حية ، ولاك لحم نيئ لثور ، ودخل في جوف حصاناً ميت عارياً بعد أن أفرغ أحشاءه ، كل هذا فعله “كابريو” باستسلام ،وصبر كبيرين فقد سلَّم نفسه للمخرج ليصنع به مايشاء ، وربما كان هذا السبب الرئيسي في فوز هذا الممثل بجائزة الكرة الذهبية ، والبافتا ، وأخيراً الأوسكار لأفضل ممثل فقد تفانى في أدائه للدور، وقبله برع المخرج في ترويض المكان المقفر والأجواء القاسية جداً ليستنبط منها مكامن الجمال بمشاهد ساحرة ،وأجواء تتلمس قسوتها ،وأحداث تتماها معها الى درجة كبيرة ساعده على ذلك المصور  “ايمانويل لوبزكي” الذي وظف الإضاءة الطبيعية في كل مشاهد فيلمه فشاطر المخرج في الإستغلال الأمثل للطبيعة البكر ، لكن يبقى من أروع المشاهد في الفيلم  ،والتي لايمكن نسيانها ، وتعلق في الذهن لمدة طويلة هو مشهد هجوم الدب على “غلاس” فقد كان تنفيذه متقناً جداً ، ويبدو أن المخرج أعطى لهذا المشهد الكثير من الجهد ،والوقت ،والمال ليكون متقناً الى هذه الدرجة ، مع إنه نفذ المشهد بإستخدام  تقنيات الحاسوب ،والغرافيكس بشكل محدود لكنه يُبقي أسرار حرفته طي الكتمان فلم يتحدث عنها عند سؤاله عن كيفية تنفيذ هذا المشهد في “جمعية الكُتّاب الأميركية ” فقال إنه كان لديه عدة إتجاهات لتصوير هذا المشهد  لكنه عمد الى التصوير الواقعي ، وكان على الممثل أن ينصاع لأوامره ، فشاهد العشرات من المشاهد الحقيقية التي تهاجم بها الدببة البشر ، ثم إستشار المخرج الالماني “فرنر هرتزوغ” الذي كان قد صور فيلم تسجيلي بعنوان “رجل الدب”، وهذا قدم له إستشارات كثيرة منها أن لايستخدم صوت الدب الهائج  بشكل مفرط لأنه يزعج المشاهدين ، ويعطي نتيجة عكسية وإستفاد كثيراً من هذه النصيحة ، ولولا أن الممثل دي كابريو حضر في حفلات المهرجانات التي فاز بها ، وكان وجهه سالماً من الخدوش ، ولم يكن يعرج ، لصدقت أنه تعرض فعلا لهجوم الدب!.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.