Image result for ‫المصوّر والكاتب والرسام الأمريكي مان راي‬‎

حتى وإن كان الموضوع الأساس لكتاب المصوّر والكاتب والرسام الأميركي مان راي «صورة ذاتية»، يتشابه مع الموضوع الأساس لكتاب مواطنه الكبير إرنست همنغواي بل يتزامن معه حتى، فإن ثمة فارقاً كبيراً في الشعبية والمكانة بين الكتابين. فكتاب راي نخبوي يتحدث عن باريس وغلاة مبدعيها في تلك السنوات الصاخبة الواقعة بين الحربين العالميتين، أما كتاب همنغواي فنصّ إحتفالي شعبي يكاد لا يدنو من النخبة. ومع هذا لكل من الكتابين مذاقه ورونقه. وكل منهما يكشف على طريقته، تلك العلاقة الفاتنة التي كانت تقوم بين الأميركيين وأوروبا في شكل عام، وبينهم فرنسا بوجه خاص. مهما يكن فإن كتاب مان راي من خلال رسمه صورة ذاتية للفنان/الكاتب، يسعى الى أن يعبّر عن تلك العلاقة بكل قوة وحب. القوة والحب اللذان إنما عبّرا عن زمن بأكمله.

> كان ذلك في الزمن الذي أبدى فيه المثقفون الأميركيون انبهاراً بأوروبا، زاد أضعافاً مضاعفة عن انبهار زملائهم الأوروبيين بأميركا. في ذلك الزمن كان لا يمكن لمبدع أميركي ان يعتبر نفسه مهمّاً وواعياً إن لم يقم بـ «الرحلة الأوروبية» على غرار ما فعل هنري جيمس. أما بالنسبة الى عدد غير قليل من المثقفين الأميركيين فإن الرحلة كانت غالباً ما تطول وتتشعب لا سيما ان كانت الى باريس التي كانت، في ذلك الحين وحسب تعبير إرنست همنغواي، «عيداً دائماً». كانت «الرحلة» بالنسبة الى البعض تتحول الى اقامة دائمة أو شبه دائمة، بحيث سرعان ما يضحى المبدع الآتي من أميركا، جزءاً من الحياة الثقافية الأوروبية، وشاهداً عليها. ومن هؤلاء كان مان راي، الأميركي الذي ارتبط بإقامته الباريسية وبالحياة الثقافية الفرنسية، وبخاصة بالتيار السوريالي، الى درجة نسي معها الكثيرون انه فنان أميركي. مهما يكن فإن مان راي، مثل غالبية الفنانين الأميركيين الطليعيين، ولد في فيلادلفيا، أي في واحدة من تلك المدن الأميركية الشرقية التي تعتبر امتداداً أوروبياً في العالم الأميركي. ومن هنا كان انتماؤه الى مدينته والى «الشاطئ الشرقي» الأميركي خير مهيئ له لولوج العالم الأوروبي – الفرنسي ولوجاً طبيعياً، وللانخراط في الحياة الفنية الفرنسية وكأنه واحد من ابنائها.

> ولد مان راي في 1890، كما يخبرنا في كتابه هذا، وكان لا يزال في مطلع شبابه حين اكتشف عالم الفن التشكيلي والنشاطات الروائية الواصلة أخبارها حديثاً من أوروبا الى نيويورك. وهكذا بدأ يساهم في الحركة الفنية طوال العشرينات من القرن العشرين يوم لم يمنعه عن تحقيق حلمه الأوروبي سوى الحرب العالمية الأولى. وهو خلال تلك المرحلة من حياته ارتبط بصداقة فنية مع ألفريد ستيغليتز الذي كان يملك غاليري فنية في نيويورك أتاحت له ولأصدقائه التعرف في شكل متواصل الى جديد النشاط الأدبي والفني الأوروبي. كما انه تعرف خلال تلك الحقبة نفسها على الفنان فرانسيس بيكابيا الذي شجعه على خوض العديد من التجارب في ميدان الرسم التجريدي الذي كان قد بدأ يصبح على الموضة في ذلك الحين. والى بيكابيا ارتبط في نيويورك بصداقة مع الفنان مارسيل دوشان الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة حينها. ثم ما ان انتهت الحرب حتى بدأ يعدّ عدته للرحيل، الى باريس وتحديداً بتشجيع من دوشان. ووصل مان راي الى باريس عام 1921 ليجد نفسه على الفور محاطاً بحلقة من فنانين وأدباء سارعوا الى تبنيه وفي مقدمتهم فيليب سوبو ولوي آراغون، وأندريه بريتون وجان كوكتو وبول إيلوار. ومن هنا شعر راي من فوره انه بات ينتمي الى مدينة النور أكثر كثيراً من انتمائه الى موطنه الأصلي. وهو لولعه بالتصوير الفوتوغرافي والرسم في الوقت نفسه، وجد نفسه يمعن في اختلاطه برفاقه الجدد محاولاً انتاج نوع من التوليف بين الرسم والتصوير بل حتى بين الرسم والكتابة. لقد وصل الى باريس حيث بدأت اقامته، منذ العام 1921، حاملاً معه في الوقت نفسه كاميرته كمصور فوتوغرافي يريد ان يواكب فن التصوير والحركة الدادائية، وقلمه ككاتب، وألوانه كرسام. ومنذ وصوله الى باريس راح يتعرف الى الأوساط الدادائية ثم السوريالية وبدأ يصور اقطابها في الوقت نفسه الذي راح يختبر فيه أسلوب «التشعيع» في لوحاته الفوتوغرافية. وكانت له حظوة سريعة لدى الفرنسيين، اذ ما ان حل العام 1922 حتى كان واحد من رسومه يزين غلاف مجلة «الأدب» الطليعية. اما العدد الأول من مجلة «الثورة السوريالية» فزينه العديد من صور مان راي الفوتوغرافية ذات المضامين والأشكال الملتقية مباشرة مع أبرز تعاليم استاذ السورياليين الشاعر اندريه بريتون.

> منذ ذلك الحين لم يتوقف مان راي عن المساهمة في الحركة السوريالية رساماً ومصوراً ومنظراً، وهذا ما تشهد عليه على أية حال صفحات كتابه هذا. ولا سيما تلك الفصول فيه التي لم يعد يهمه كثيراً ان يصف فيها حياته الشخصية بقدر ما صار همه الحديث عن رفاق دربه الفرنسيين لنجده، وهو يحدثنا عن الخلافات والإنشقاقات داخل الحركة السريالية بخاصة، يشعرنا كم أنه حرص على الحيلولة دون حدوث الانشقاقات بحيث يبدو وكأنه من أكثر المنتمين الى الحركة السريالية حرصاً على بقائها. ومن هنا يمكن القول ايضاً أن «صورة ذاتية» لمان راي يكاد يكون في الوقت نفسه نوعاً من التأريخ – الموضوعي الى حدّ كبير – لذلك التيار الفني الإبداعي الذي شغل العالم والحياة الفنية والأدبية خلال مرحلة ما بين الحربين. والحال ان مان راي يؤكد لنا في العديد من فصول الكتاب ما كان معروفاً في تاريخ الحركة السريالية من انه كان الأكثر نشاطاً بين أعضائها، والأكثر حرصاً دائماً على عدم انتهاء الحركة الى زوال. وهكذا حملت الأعداد المتعاقبة من مجلة «الثورة السوريالية» ثم إعداد مجلة «مينوتور»، العشرات من رسوم مان راي بحيث أن اسمه اشتهر في انحاء العالم كافة. وهو كان خلال ذلك يمعن في تجريبيته التصويرية، مستخدماً في لوحاته الفوتوغرافية عشرات التفاصيل ذات الدلالة جاعلاً من الصورة عملاً فنياً غريباً. وفي الوقت نفسه كان لا يكفّ عن تصوير أبرز ممثلي الحركة التشكيلية والشعراء السورياليين، بحيث ان ملامح معظمهم لم تعرف إلا عبر صوره. اما بالنسبة الى تجاربه في الرسم، فإنها في باريس تضاءلت، كماً ونوعاً، عما كانت في نيويورك، بحيث ان فترة 1914 – 1920 النيويوركية ظلت بالنسبة اليه عصره الذهبي كرسام، بينما شهدت باريس عصره الذهبي كمصوّر. غير ان هذا لا يمنع من الاشارة الى ان ثمة بين اللوحات التشكيلية التي رسمها مان راي في فرنسا، أعمالاً اشتهرت ولفتت الأنظار بشاعريتها، ومنها مثلاً لوحته «مناظر سويدية» (1929) و «ساعة المرصد» (1932) و «العشاق» (1934). اضافة الى لوحته الشهيرة التي تمثل «المركيز دي ساد». وفضلاً عن ذلك كله خاض مان راي لعبة الإخراج السينمائي، وحقق أواخر سنوات العشرين، ضمن نطاق السينما الصامتة فيلمين شهيرين هما «نجمة البحر» و «أسرار قصر دي». ولكن بين مان راي الرسام والسينمائي والمصوّر كانت الأفضلية دائماً لمان راي المصوّر، ولا سيما بفضل تلك الصور الكثيرة ذات «التفاصيل الحسابية والهندسية» التي حققها في 1936 وكانت بداية لسلسلة صوره التي سميت «معادلات شكسبيرية». والحقيقة ان هذه التسمية لم تكن اعتباطية حيث ان ولع مان راي الشكسبيري لم يكن يخفى على أحد. وكذلك الحال مع ولعه بكبار الكتاب الأنغلوسكسونيين الذين صوّرهم في لوحات خالدة (جويس، همنغواي،عزرا باوند، سنكلير لويس….)

> في 1940 عاد مان راي الى الولايات المتحدة حيث أقام طوال فترة الحرب وما بعدها، ليعود مرة ثانية الى باريس في 1949 حيث استأنف عمله كمصور ورسام، وهو عمل تابعه حتى رحيله في العام 1976، غير ان عصره الذهبي ككل كان قد أضحى وراءه، كما ان اهتمامه بالسوريالية كان قد تضاءل في شكل جعله يعيش أواخر حياته على هامش الحركة الثقافية كمجرد أثر متحفي من آثار زمن ولى

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.