صورة فلسطين في التصوير الفوتوغرافي الأوروبي المبكر

إن خلفية المصور (وكان المصورون غالباً من الرجال) والأسباب التي دفعته إلى شدّ الرحال إلى فلسطين هي التي تحدد اختياره لموضوع التصوير. فبينما كان المصور الذي يرافق بعثة أثرية يقوم على الأرجح بالتقاط صور للآثار، كان المصور الذي سافر إلى فلسطين لدراسة الكتاب المقدس متجهاً في الغالب إلى توثيق الأماكن المرتبطة بتاريخ الكتاب المقدس، أكثر مما يفعل السائح العادي الذي اصطحب كاميرا معه، وصور غالباً الأماكن التي زارها.
وعلى الرغم من تعدد الأسباب التي دعت المصورين الفوتوغرافيين الأوروبيين للسفر إلى الشرق الأدنى في القرن التاسع عشر، فبالإمكان الادعاء بأن سبباً واحداً واضحاً وبسيطاً شكل القاسمم المشترك فيماا بينهم، وهو الرغبة بتصوير الشرق، أو بمعنى آخر بتعريفه بصرياً لمشاهدي الصور الفوتوغرافية في بلدان أوروبا ومستعمراتها المختلفة بالأساس. ذلك أن النتيجة النهائية-وبغض النظر عما إذا كانت دوافع هذا المصور أو ذاك هي طلب السوق الأوروبية والأمريكية لمثل هذه الصور، أم دوافع أخرى سبق ذكرها-تمثلت في نقل صورة عن معالم الشرق للمشاهد الأوروبي، ما أدى إلى خلق تصور ومخيلة أوروبية لشكل الشرق وسكانه ومعالمه التاريخية. وفي خضم عملية إنتاج الصور هذه، غالباً ما أخذ المصورون أفكاراً وحتى صوراً فوتوغرافية من بعضهم البعض، كما أعادوا إنتاج تصورات عرفت سابقاً في الرسومات من خلال وصف الرحالة. وهم بذلك وفروا، سواء عن قصد أم غير قصد، أدلة فوتوغرافية لمواضيع ومفاهيم عرفها المجتمع الأوروبي سابقاً.
في هذا السياق، ليس من المستغرب أن نجد تكراراً في المفاهيم، ونوعية الصور المنتجة، آنذاك، لفلسطين من ناحية الموضوع، واختياره من قبل المصورين القادمين من أوروبا وأمريكا الشمالية،، حيث تشير درجةة التكرار هذه، وبخاصة في الصور المتداولة في الأسواق آنذاك، إلى تشكل نوع من التقليد الأوروبي لكيفية تصوير فلسطين.

ويمكن ملاحظة عوامل التقليد هذه من خلال عدد من الأمور منها:
– الإطار الذي صُور فيه موضوع الصورة.
– موضوع الصورة ذاته وطريقة اختياره.
– أبعاد المضمون والموضوع والصورة الجمالية.
– التعليقات أو الشروحات المرافقة المثبتة على الصور حول موضعها (captions ).
واستناداً إلى مسح شامل وعام لعدد كبير من الصور الفوتوغرافية (على أنواعها، سواء أكانت “ديغيروتايب” أم صور “كولوديون” أم غيرها)، والتي تعود للقرن التاسع عشر والموجودة في عدد منن المتاحف والأرشيفات،، فقد وجدت أدلة تثبت أن تقليداً أوروبياً بالفعل قد تكون لكيفية تمثيل فلسطين في الصور، يمكن استعراضه من خلال تكرار المواضيع الستة التالية في الصور، مع الإشارة إلى أن هذه المواضيع ليست بالضرورة الوحيدة لكنها ربما الأكثر تكراراً:
– طغيان تصوير المواقع ذات الأهمية الدينية.
– تجنب تصوير السكان المحليين.
– تصوير الأشخاص بطريقة تجعل منهم إثباتات تاريخية لصحة الرواية والتراث الإنجيلي.
– تمثيل ومسرحة المشاهد الإنجيلية والتوراتية.
– غياب صور الأشخاص (وتحديداً النساء) العراة من صور فلسطين آنذاك.
– تصوير المواقع نفسها ومن الزوايا نفسها باستمرار.

يظهر أول هذه النماذج وأكثرها وضوحاً، أن الأغلبية العظمى لهذه الصور، هي لمواقع تتصل بالتاريخ الإنجيلي، ومن أكثرها شهرة الكنائس الرئيسية والأماكن المقدسة في القدس، وبيت لحم، والناصرة، مثل: كنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة الصعود، وحائط المبكى، وكنيسة القديسة كاترين في سيناء، وغيرها من المواقع الدينية. ولا يفهم من ذلك أن الكنائس خاصةً وأماكن العبادة عامةً هي التي سيطرت على مواضيع الصور وحدها، بل ظهرت في الصور إلى جانب هذه المواقع، وبشكل متكرر، أماكن أخرى ترتبط بالتراث الإنجيلي من دون أن تكون بالضرورة قد تحولت إلى كنائس كقرية العيزرية (والتي يشار إليها دوماً باسمها الإنجيلي بيتاني أو بيت عنيا)، ووادي الملوك، وجبل الزيتون، وجبل القرنطل، ونهر الأردن، وغيرها. ومما يثير الانتباه في هذه الحالات، أن التعليق المكتوب على هذه الصور، والمثبت على “النيجاتيف” أو “الصورة السلبية”، كان دوماً الأسماء الإنجيلية-التوراتية، عوضاً عن الأسماء التي يستعملها سكان فلسطين في تلك الفترة، كما في حال قرية العيزرية أو نابلس، التي ظهرت دوماً على أنها “شخيم” وما إلى ذلك. وربما أن الوصف الشائع، آنذاك، لأحد أهم مواقع مدينة القدس على الإطلاق، وهو قبة الصخرة، وبخاصة لدى المصورين الذين غالباً ما أصروا على تصويره على الرغم من الحظر القانوني، على أنه “موقع هيكل سليمان”، يشكل أكثر الأمثلة تطرفاً وغرابة. فها هو أحد أقدم مباني القدس التاريخية، وأحد أجمل المواقع المعمارية في العالم، وأحد أهم المعالم الدينية في القدس على الإطلاق، يتم تجاهل وجوده، وفي الوقت ذاته يتمكن المصور من رؤية ما يعتقد أنه كان قائماً في ذلك الموقع قبل آلاف الأعوام. القدرة هذه على عدم رؤية ما هو واضح، ورؤية ما هو متخيل، تشكل حالة من العمى الثقافي المرتبط بالمخيلة الاستشراقية لفلسطين.
لقد قام المصور الفوتوغرافي الاسكتلندي “جيمس غراهام” العام 1854 بطبع مقطع من إنجيل لوقا على نيجاتيف الصورة التي التقطها لقبة الصخرة، والذي يرد فيه “في النهار كان يعلم في الهيكل،، وفي الليل كانن في الجبل المسمى جبل الزيتون”.27 وقد يكون هذا “العمى الثقافي” والواضح في مثال غراهام، بكل بساطة، نتيجة لطلب السوق الأوروبية صور الأراضي المقدسة لاستعمالها في تزيين الأناجيل، وكتب الرحالة والحجاج وغيرها من الكتب الدينية، متبعين في ذلك التقاليد التي وضعها سابقاً الرسامون والنحاتون. ولكن غراهام كان أيضاً قد أُرسل الى القدس من قبل جمعية ترويج المسيحية بين اليهود (The Society for the Promotion of Christianity Among the Jews ) وهي جمعية بريطانية تؤمن بضرورة تنصير اليهود في فلسطين تحقيقاً لنظرية عودة المسيح الثانية .

إن النموذج الثاني المتبع في هذه الصور عموماً، هو غياب السكان المحليين. فمن الصعب جداً العثور على صور لبشر في صور فلسطين المبكرة، وبخاصة في مرحلة ما قبل العام 1867. وتتأكد هذه النقطة حين ننظر إلى أعمال لمصورين مثل الفرنسيين “مكسيم دوكامب”، و”أوغست سالزمان”، وأعمال الثنائي “روبتسون وبياطو”، التي تعود إلى مرحلة الخمسينيات من القرن التاسع عشر. وقد ظل الأمر على حاله حتى نهاية الستينيات من تلك الحقبة، حين صار ظهور الأشخاص ملاحظاً أكثر في الصور الفوتوغرافية. وما يلفت الانتباه أن الصور التي التقطها المصور الإنجليزي “هنري فيليبس” جُلها خالية من الأشخاص، في حين أن المصور أساساً قد أُرسل إلى فلسطين من أجل هدف محدد، وهو القيام بتوثيق البلد. حتى في صور الأراضي المقدسة لـ”بونفيس” (ستينيات، وسبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر)، ظل الأشخاص غائبين عن صوره للمواقع الإنجيلية والتاريخية. وخير مثال هي الصورة المشهورة لـ”بونفيس” لقبة الصخرة في القدس، التي أشرنا إليها أعلاه.

وفي الصور المأخوذة للموقع نفسه (الصخرة) للمصور “ماندل دينس”- وهو مهاجر روسي من أصل يهودي وصل إلى فلسطين وتعلم التصوير في القدس على يد زوجة القنصل البريطاني السيدة فن (Fin ) في خمسينيات القرن التاسع عشر- المأخوذة العام 1858، نلمح أحياناً هيئة على ما يبدو أنه شخص، لكن من مسافة بعيدة تجعل منه مجرد شكل بالكاد أن يرى. الكثير من المواقع المهمة في مدن وقرى فلسطين مثل: كنيسة القيامة، وشوارع القدس، وبيت لحم، وطبريا، ويافا، وغيرها وأبواب مدينة القدس، مثل باب العامود، وحائط المبكى في القدس، وعين العذراء في الناصرة، ظهرت في أغلب الأحيان فارغة، إلا في ما ندر، حيث يظهر الأشخاص كأمر ثانوي بالنسبة للمكان. وتولد هذه الصور في المشاهد إحساساً بأن فلسطين مكان غير مأهول وخالٍ، فقد تحولت معها أكثر الأماكن حياة وحيوية إلى مجرد مواقع أثرية قديمة وغير مأهولة لا تصلح إلا لتذكير المشاهد بالتاريخ التوراتي العريق ليس إلا.
وبالطبع، هناك صور عدة تخالف هذا الانطباع السائد (وهو ما سيتم نقاشة في الأجزاء التالية)، وتشكل إلى حد كبير استثناءات للقاعدة العامة، حيث نرى صوراً لحشود بشرية في بعض المناطقق وبعض المواسم.. وأهم مثال على هذا ربما هو مثال الصور الكثيرة للحشود أمام كنيسة القيامة في القدس خلال عيد الفصح، أو صور موسم النبي موسى، أو عيد الغطاس في نهر الأردن. وعلى الرغم من شعبية هذه الصور، فإنها لم تغير الفكرة المأخوذة أصلاً عن فلسطين كمكان فارغ، لأن وجود هذه الحشود فيها ارتبط بخصوصية المناسبة. وقد ساعدت التعليقات المكتوبة على هذه الصور على تأكيد هذا الأمر.

فالصورة التي أخذها “دوايت ألمندورف” لطقوس غسل الأرجل في الساحة الخارجية لكنيسة القيامة في عيد الفصح من العام 1901، هي خير مثال على ذلك، مظهراً فيها حشوداً من الناس تحاول الدخول عبر أبواب الكنيسة. ويظهر التعليق المكتوب على الصورة بوضوح أن وجود الحشود في مناسبة دينية مهمة لا يعني الكثير في سياق تصوير فلسطين كمكان مأهول، وذي مجتمع محلي فاعل. “ألمندورف” وصف الصورة بأنها صورة “حشود الحجاج وآخرون”، وهو بذلك قد أصر على تأكيد أن غالبية الموجودين هم من الحجاج- وبالتالي ليسوا سكاناً أو أبناء بلد-وهذا ما يؤكد للمشاهد حقيقة أن ما يشاهده هو بالفعل مكان مقدس، وفي الوقت ذاته يقلل من أهمية وجود السكان المحليين وظهورهم المؤكد في الصورة عبر تهميشهم لمجرد “آخرين”.

بلا شك، إن غياب الفلسطينيين عن معظم الصور يمكن أن يعزى جزئياً لعدائهم- وتحديداً في هذه الحال، المسلمين واليهود على حد سواء- للمصورين الأوروبيين الدخلاء على عاداتهم وعلى ديارهم، الذين يقومون بأعمال ربما اعتبرت مسيئة لتعاليم الدين. ولكن هذا ليس السبب الوحيد، فتغييب الفلسطينيين كشعب عن الصور الفوتوغرافية، هو أيضاً بطريقة أخرى، تغييب عن فكر ووعي الأوروبيين والأميركيين. فالمصور “دو كامب”، الذي زار فلسطين وصورها بعد أن زار مصر برفقه الكاتب “فلوبير” العام 1849، قد حرص دوماً على أن يظهر أشخاصاً مصريين في الأهرامات والقاهرة وغيرها. لماذا اختار إظهار الأشخاص في مصر ولم يشعر بضرورة أن يصور البشر في فلسطين؟ وكذلك الأمر، لماذا اختار المصوران هنري فيلبس و”جيمس مكدونالد” وغيرهما من مصوري البعثات العلمية والأثرية عدم تصوير أبناء البلد أسوة بمصوري المواقع الدينية؟

إن السبب يكمن في أن المصورين نظروا – وثم صوروا – لفلسطين أساساً، كموقع ديني وليس كموقع مثير للتصوير أسوة ببقية مناطق الشرق آنذاك (راجع الصور الشائعة للمغرب والجزائر وتونس تحديداً). كذلك الأمر ربما نجد الجواب عن سؤالنا أعلاه في ما عبر عنه المصور الأميركي “إدوار ل. ويلسون”، الذي صور فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما قال بوضوح إن الفلاحين الذين صادفهم بالقرب من بحيرة طبرية التي يسميها الإنجيل ببحر الجليل “منفرون”، واصفاً وجودهم في فلسطين بأنه “لا ينسجم على الإطلاق مع طبيعة الأرض والمنطقة” 28 مثل هذا الموقف من الفلسطينيين، قد يكون مقتصراً على صاحبه، لكن الفكرة أنهم لا يصلحون كمواضيع للتصوير تتكرر حتى لدى من لم يعتبرهم منفرين. لقد كتب المصور الاسكتلندي “جون كرامب” حول خيبة أمله من عدم قدرته على تصوير نساء بيت لحم، واللواتي اعتبرهن جميلات، وذلك خلال رحلة التصوير التي قام بها العام 1860:
“نساء بيت لحم بالغالب بيضاوات السحنة وجميلات بالتأكيد. كل من سافر من هنا شهد ذلك . إنني شديد الأسف لكوني لم أتمكن من إحضار أدلة على ذلك، لكني لم أكن هناك لأصور مواضيعع كهذه. أنا آسفف لأني اتبعت تعليمات ومسؤوليات وظيفتي بدقة”.29
يبقى الأمر أنه وبغض النظر عما فكر فيه المصورون، فهم قد أظهروا فلسطين في صورهم- وهذه بعد وصولها للسوق تتخذ حياة خاصة بها بعيدة عن نوايا المصور- خالية من السكان، وبالتالي قدد مهدوا ولو عن غيرر قصد لبروز الشعار الصهيوني “أرض بلا شعب”، الذي ربما قد يكون قبوله لدى الإنسان الأوروبي في بدايات القرن العشرين قد تأثر بكون الأوروبيين قد عرفوا فلسطين من خلال الصور، كما لو كانت أرضاً مهجورة.

أما النموذج الثالث المذكور أعلاه، وهو يتعلق بموضعة أو تشييء الحضور الإنساني، وتحويله دليلاً أو استعراضاً لأحداث من الرواية الإنجيلية أو التوراتية، فيشير إلى أن إدخال الأشخاص إلى الصور الموزعة تجارياً، يتم بقصد تصوير فلسطين ذات الإرث التوراتي، فصورة للرعاة مثلاً تعيد إلى الذهن حكاية ولادة المسيح، وصورة المرأة التي تملأ الجرار ماء من البئر تذكر بالمشهد الذي يجمع المسيح بالمرأة السامرية، وصورة النساء الجالسات على مدخل الكهف تستدعي مشهد القيامة، وقد ذهب بعض المصورين إلى أبعد من ذلك، بحيث كتبوا على الصور مقاطع من التوراة تتطابق مع اختيارهم للمشهد. المصور الأمريكي “دوايت ألمندورف، مثلاً، نشر آية إنجيلية على خلف كل صورة أخذها لفلسطين، بما في ذلك صور الباعة، وصورة تظهره شخصياً.
ولم تكن هذه الصور تعمل كمجرد خدمة لتأكيد الأحداث الماضية، بل إنها، أيضاً حملت معلومات غير دقيقة تاريخياً. فالتعليق المكتوب على صورة لقبة الصخرة ينسب تاريخ البناء إلى القرن العاشرر بعد الميلاد، بينماا هو في الواقع يعود إلى نهاية القرن السابع. كما صار لعملية تحويل الفلاحين الفلسطينيين إلى أيقونات إنجيلية، أثر على نوعية الصور المأخوذة في الأستوديو، التي راجت في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.

من ناحية أخرى، أصبح من الصعب الأخذ تماماً بمصداقية هذه الصور، حين يتضح أن الأشخاص المأخوذة صورهم هم مجرد “موديلات”. ففي مجموعة “بونفيس”، مثلا،ً نرى الشخص نفسه يظهر مرة على أنه حلاج قطن من القدس، ومرة أخرى على أنه “الحاخام” الأكبر لمدينة القدس. كما يُعرف أحد الأشخاص في صورة لـ”دوماس” على أنه البطريرك الماروني للقدس، وهو منصب لا وجود له في المدينة (بالطبع إلا إذا كان هو بطريرك لبنان الماروني وقد صور في القدس، وعندها نستغرب عدم الإشارة إلى ذلك).

وفضلاً عن ذلك، فإن معظم الموديلات لم يكونوا يمثلون السكان المحليين بالمعنى الواسع، بل هم ينتمون إلى أقليات صغيرة في فلسطين، كالسامريين، والأرمن، والبدو.
إن تشييء الفلسطينيين حدث في الغالب بترابط مع النموذج الرابع المذكور سابقاً وهو تمثيل المشاهد الإنجيلية، فمن الصعب أحياناً تحديد إن كانت بعض الصور الفوتوغرافية ممسرحة، أم أنهاا ببساطة مجرد مشهدد واقعي تلاعب به المصور لتحويله إلى ما يشبه الفكرة الإنجيلية (…). إن هذه المسرحة للمشهد الإنجيلي لم تقف فقط عند حدود القرن التاسع عشر، بل امتدت إلى مرحلة الانتداب البريطاني (1917-1948).

ففي عدة صور التقطها السويدي” أريك ماتسون” في العشرينيات أو الثلاثينيات من القرن العشرين، والمسماة “منزل في يهودا”، يظهر بناء قديم شبيه بالمغارة، يقف أمامه شخص يبدو وكأنه أب، بينما الأم جالسة على الأرض تحتضن طفلها، ويظهر إلى جانبيهما رجل مع جملين. ولا يبدو ممكناً إرجاع الشبه بين هذه الصورة ومشهد ولادة المسيح، إلى الصدفة وحدها.
النّمط الرّابع الذي يصعب، أحياناً، فصله بشكل قاطع عن النمط الذي سبقه، يتعلق بتمثيل المشاهد الإنجيليّة. الصعوبة ناجمة عن إشكالية التحديد الدقيق أحيانًا إذا ما كانت بعض الصّور مُثلت أوو أنها ببساطة كانتت صوراً لمشاهد واقعيّة حوّلتها معالجة المصوّرين وعناوينهم التي أعطوها للصورة إلى نوع من الاستعارات الإنجيليّة. وقد تمتع مثل هذا النوع من الصور بشعبية فائقة، وبخاصة في أوساط منتجي الصّور المجسّمة (الستيريوسكوب). فعلى سبيل المثال، نجد ضمن المجموعة التي حملت عنوان “دروس سفر يسوع” بطاقة مجسّمة نرى فيها رجلاً يبدو بزي راهب أرمنيّ يسير وحصانه بعيداً متفادياً رجلاً آخر ملقى على الأرض لابساً زي فلاح فلسطيني، فيما يحاول رجل ثالث مساعدة الرجل المطروح أرضاً. العنوان الذي وضعه منتجو المجموعة هو: على طريق أريحا: مثال السامري الطيب (إشارة للنص الإنجيلي لوقا 10: 25-37).

هذه الصّورة ليست إلا نموذجاً لعدد كبير من الصور المتشابهة لمشاهد ذكرت بالكتاب المقدس بشقيه. نموذج آخر نجده ممثلاً في عدد كبير من الصور التي يظهر فيها أشخاص ذو عاهات خلقية أو تشوّهات، وبخاصة المصابين بالبرص، وهذا ما يستحضر للذهن النص الإنجيليّ المتعلق بشفاء البرص. استعمال الصور في تفسير واستعراض النص الإنجيلي مسألة كانت قد احتلت مكاناً لها في الحوارات الكنسية في العصور الوسطى، مؤدية في النهاية إلى التبني الرسمي لاستعمال الرسومات والصور في تقريب المعنى الديني لمن لا يحسن القراءة. ففي العام 1025، أصدر المجمع الكنسي المعقود في “آراس” قراراً بتشجيع مثل هذا الاستخدام للصور (والقصد آنذاك اللوحات)، مؤكدين بأن “لا تستطيع عامة الشعب إدراكه بواسطة قراءة الكتاب المقدس، يجب أن تعلمه عبر المتابعة المستمرة للصور.”30

وعلى الرغم من ذلك، فإن استخدام الصور الفوتوغرافية المصورة في فلسطين لمثل هذا الهدف، له جانب آخر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار إدراك المشاهد بأن ما يراه في الصورة هو، أيضاً، جزء أو حدث من البلاد المقدسة. وفي هذه الحالة، فإن الصورة الإنجيليّة ليست الرّسالة الوحيدة التي سيتلقاها المتفرج، بل إن هناك جانباً قيمياً وحضارياً يرتبط بالاستعلاء الأوروبي. فبالعودة إلى صورة البرص في شوارع القدس- وهي صورة نكاد نجدها في كل مجموعات “الستيريوسكوب” المجسّمة التي نشرت لفلسطين – نجد التعليق التالي على واجهة الصورة: برص رديئون وغير طاهرين خارج أسوار القدس، كما نجد خلف بطاقة الصورة- وهي في هذه الحالة التي نقتبسها من ضمن المجموعة التي أنتجتها شركة أندر وود وأندر وود- وفي ضمن كتاب الشرح المصاحب للمجوعة المسماة القدس من خلال المجسّم أو “الستيريوسكوب”، النص التالي:
يلاحظ أنه بوجهٍ عامّ هناك عادةً أربعون إلى خمسين منهم (المقصود مرضى البرص) خارج المدينة [يضيف النص بأن] مثل هذا المرض الذي يتم توارثه هو مرض إثم ومميت، يرثه الرجل من سلالةة طويلة من الأجدادد الآثمين […] ولا يمكن لأية قوة بشريّة أن تعالجه.

وبالإضافة إلى الهوس الديني الواضح في النص أعلاه، فإن النص أيضاً قد يقرأ على أنه يمثل نوعاً من الرؤية الدونية لسكان فلسطين الذين لا يظهرون إلا إذا كانوا برصاً ومشوّهين، ما يعطي الانطباع العام بأنهم عموماً متخلّفون وموبوءون.
يكتسب النّمط الخامس مغزاه من غيابه. ذلك أنه من المستحيل تقريباً إيجاد أيّ صور من القرن التاسع عشر لفلسطين تتماثل مع صورة الشّرق المثير والمغري التي عرفت في فنّ الاستشراقق آنذاك. خذ مثلاً لوحةة الحاوي للرسام “جيروم”، التي نرى فيها مجموعة من التجار الجالسين في بيت شرقي المعالم، بينما يداعب غلام أفعى كبيرة. جو اللوحة يشكل أفضل تعبير عن صورة الشرق في المخيلة الأوروبية آنذاك. صورة الشرقيّ الذي هو الآخر الغريب كما مُثل في كتب الرحالة وفي اللوحات الزيتية والأدب الرّومانسيّ والصور، من الصعب إيجاد رديف لها في صور فلسطين عموماً.

ومن اللافت أن هؤلاء المصورين، قد التقطوا أحياناً صوراً لنساء عاريات في مناطق أخرى من فلسطين. فنجد، على سبيل المثال، صورة في مجموعة “بونفيس” تظهر فيها امرأة تحمل الحطب وأحد ثدييها يظهر عارياً أمام الكاميرا، وقد وصفت في دليل “بونفيس” التجاري على أنها بدوية من أريحا. ومن الطريف أننا نجد صورة مطابقة لتلك الصورة لدى المصور الفرنسي “دوماس” المقيم، آنذاك، في بيروت، تظهر فيها امرأة مشابهة تحمل الحطب أيضاً، وثديها عارٍ وصفت بأنها بدوية من بيروت. إن التشابه بين هاتين الصورتين ربما قد يضع علامة استفهام على مصداقية الوصف، كما أنه يشير لمسألة هي موضوع النموذج التالي في نقاشنا حول التقليد الفوتوغرافي الأوروبي.

إن النموذج الأخير يظهر من خلال العديد من الصور المأخوذة للمواقع نفسها، ومن خلال الزاوية نفسها، حتى وإن بدت هذه المواقع في الظاهر من دون أي معنى مميز. فالعديد من الصور التي التقطها مصورو الأمريكان كولوني وغيرهم، والتي غالباً ما سميت بـ “المشهد الأول للقدس”، تظهر تحديداً المشهد نفسه (وهو في هذه الحالة منظر القدس من جهة محطة القطار). بل إن هذه الصور تظهر فيها الأعداد نفسها من الحيوانات والأشخاص في المواقع نفسها. إن هذا النسخ المتكرر يبدو لنا أكثر من مجرد تبعية المصورين الجدد لغيرهم من الأوائل، إنه نتيجة تقاليد راسخة في فكر هؤلاء المصورين الذين صاروا وكأنه من واجبهم اتباعها، وأن أي موقع في المدينة قد صوّر سابقاً استحال دلالة ما ينبغي على المصورين الجدد توثيقها لاحقاً.
الصورة، المعنى، والاستعمار بصرياً

ربما يجدر هنا التأكيد على أنه لا وجود لشيء واحد يمكن تسميته بمعنى الصورة أو النص، بل على الأرجح أن هناك احتمالات مختلفة لمعانٍ متعددة تنبع من القراءات المختلفة للصورة نفسها أو النص نفسه. وهذه القراءات تعتمد، في الغالب، أولاً على تجربة القارئ/المشاهد، والسياق التاريخي والثقافي الذي تمت فيه القراءة وإنتاج الصورة أو النص. من ناحية أخرى، من المهم التركيز على أن هؤلاء المصورين لم يكونوا دوماً مدركين لكل المعاني المحتملة للصور التي ينتجونها، كونهم هم أنفسهم عرضة لأنواع مختلفة من التأثيرات الواعية وغير الواعية، التي تجعلهم على اتصال وقابلية لاستقبال المفاهيم والأفكار التي وجدت وتكوّنت قبلهم.
في حالة فلسطين، عكس التصوير الفوتوغرافي -بوعي منه أو من دونه- رغبة الاستعمار الأوروبي بامتلاك فلسطين سياسياً. واستمرت التقاليد بتقديم فلسطين على أنها إرث إلهي يتوقونن لامتلاكه، وهو الفكرر الذي سيطر على العقل الأوروبي على امتداد القرون الوسطى. لقد قدم التصوير الفوتوغرافي فلسطين على أنها موقع توراتي، كما سلط الضوء على وجود أقليات مسيحية ويهودية تحتاج إلى الحماية، وقدم باقي السكان على أنهم مجموعة من الأفراد المتخلفين حضارياً. فالصور التي اجتاحت البيوت الأوروبية والأميركية ساعدت على تشكيل وعي أوروبا لصورة فلسطين بوصفها أرض الأحلام؛ أرضاً في انتظار من يطالب باستردادها روحياً ومادياً.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.