36 قطعة من مقتنيات الفنان وإبداعه وتجسيدها في 65 لوحة وعملاً

في استوديو ماتيس… تأثيرات أفريقية وصينية وإسلامية

عبير مشخصللفنان العالمي هنري ماتيس جاذبية خاصة ومكانة لا ينازعه فيها أحد من الفنانين؛ فهو فنان لا يمكن حصره في دائرة واحدة، تغيرت أعمالة وتشكلت بحسب التيارات الفنية التي تأثر بها ومن خلال فنانين أعجب بأعمالهم واستلهمها في أعماله، وأيضا من المنسوجات ومن العمارة والفن الإسلامي، وغيرها كثير من المؤثرات التي تجعل زيارة أي معرض للفنان بمثابة اكتشاف جديد لفنه الخالد.

ويأتي المعرض الحالي الذي تستضيفه الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (رويال أكاديمي أوف آرتس) ليستكشف جانبا مختلفا في عالم هذا الفنان الثري بالإبداع. المعرض بعنوان «ماتيس في الاستوديو» ويمتد على مساحة خمس غرف في «رويال أكاديمي»، مستكشفا كيف أثرت قطع اقتناها الفنان في مراحل مختلفة من حياته في تكوين لوحاته ومنحوتاته. والمعروف عن ماتيس أنه كان شغوفا بجمع القطع المختلفة، ليست بالضرورة قطعا ثمينة، لكنها جميلة ولمست في نفس الفنان وترا حساسا، تلك القطع ملأت الاستوديو الخاص به ووجدت طريقها لأعماله. الجديد هنا، هو أن منسقي المعرض قرروا إعادة اكتشاف تلك القطع وتجسيدها المتمثل في لوحات ومنحوتات ورسومات نفذها ماتيس، عبر عرضها بجانب تلك الأعمال الفنية.

ننطلق من الحجرة الأولى، حيث نجد أحد أقوال ماتيس مكتوبا أمامنا: «حياتي هنا بين جدران الاستوديو»، وهو ما كان واقعا حسب روايات الكثيرين ممن زاروا الفنان في مرسمه أو الاستوديو الخاص به، المكتظ بالقطع الأثيرة لديه من مفروشات وقطع سجاد وأقمشة ملونة ابتاعها من الجزائر ودول المغرب العربي، وأقنعة أفريقية ومزهريات من الفخار من الصين وغيرها. كل واحدة منها تعبر عن ثقافة مختلفة وعن تنوع في الذائقة الإبداعية للفنان. ولهذا؛ فإن دخول الاستوديو بالنسبة لأصدقائه كان يشبه الدخول في إحدى لوحاته وفي عالمه الفني. جمع ماتيس بعض تلك القطع خلال رحلاته وبعضها كانت هدايا تلقاها في فترات مختلفة وبعضها الآخر قطع متفرقة اشتراها من محال للعاديات والأنتيكات في فرنسا. جمع بين كل تلك المقتنيات إحساس الفنان ونظرته الخاصة، ويشبه ماتيس تلك القطع بالممثل الذي يمكنه تقمص عشرات الأدوار، كما يصف مجموعته بـ«المكتبة» التي يرجع لها دائما للبحث. ودأب على نقل مجموعته تلك معه من بيت لبيت وتنسيقها بإتفان وإبداع في كل مكان عاش فيه. المعرض يسجل ذلك بلقطات فوتوغرافية من استوديوهات ماتيس المختلفة، حيث نرى تلك القطع المتراصة حوله وهي نفسها التي نراها في الأعمال المختلفة التي أبدعها.

في الغرفة الأولى من المعرض نرى مثالا حيا لذلك، فهنا أكثر من لوحة نجد فيها آنية وإبريقا من الزجاج الأزرق، ونجد الإبريق ذاته في خزانة زجاجية أمامنا، ونراه مرة أخرى في صورة فوتوغرافية من استوديو ماتيس أرسلها الفنان إلى أحد أصدقائه وكتب عليها واصفا إياها بأنها: «قطع استعنت بها طوال حياتي». تبدو تلك الترددات مهمة للزائر؛ فهي تخلق نوعا من الألفة، وأيضا تفسر للناظر مراحل عمل الفنان وكيفية تحول تلك القطع على يديه لتشغل حيزا مهما من لوحاته. يقدم المعرض 35 قطعة إلى جانب 65 عملا فنيا لماتيس من اللوحات والرسومات والمنحوتات والقصاصات الملونة.

في عام 1951، قال ماتيس «كنت أعمل وأمامي القطع نفسها… كل قطعة مثل الممثل. فالممثل الجيد يستطيع القيام بأدوار في عشر مسرحيات مختلفة، والقطعة تستطيع أن تلعب دورا في عشر لوحات مختلفة». ولهذا كان يحمل تلك القطع القريبة إلى نفسه معه إلى أي مكان يسافر إليه. في أحد أقسام المعرض يحمل عنوان «القطعة كممثل» نجد أمثلة للطريقة التي أعاد ماتيس بها استنساخ بعض كنوزه من القطع المختلفة، من خلال إناء للشرب ومزهرية أندلسية من الزجاج الملون وإناء لصنع الشوكولاته الساخنة كان هدية لماتيس بمناسبة زواجه، كل تلك القطع نراها على الطبيعة ونراها مرة أخرى تشكلت في رسومات أو على هيئة قصاصات ورقية أو في لوحة زيتية.

في الحجرة المجاورة نستكشف تأثر ماتيس بالأقنعة الأفريقية التي جمع بعضها خلال أسفاره في وسط وشمال أفريقيا، ونرى من خلال لوحات ومنحوتات مختلفة تأثير الأقنعة الأفريقية وتكوين الرأس متأثرا بقناع ذي مقدمة عالية ظهر في منحوتة لرأس امرأة ذات جبهة عالية. في حجرة تحمل عنوان «الوجه» نرى أيضا تأثير الأقنعة الأفريقية مرة أخرى على رسم البورتريه وتكوين الوجه الإنساني. التأثير الأساسي يظهر في تجريد وتبسيط الملامح الإنسانية، فمن ينسى تلك اللوحة التي يعبر فيها الفنان عن وجه امرأة بخطوط بسيطة مستعيضا عن كل التفاصيل بخط للأنف وخطين للعينان ليكون بورتريه يقدم معنى جديدا للإبداع.

الاستوديو والمسرح

ربما من أكثر أقسام المعرض تنوعا، ولا عجب في ذلك؛ فمعظم القطع هنا تحمل لمسات ماتيس الشهيرة في استخدام النقوش والألوان الرائعة، وهي أيضا مستوحاة من رحلاته لشمال أفريقيا والجزائر تحديدا. أشكال الفن الإسلامي بنقوشه المجردة كانت بلا شك من التيارات التي جذبت ماتيس بشكل كبير، وظهرت في أعماله على هيئة ستائر ملونة وقطع من السجاد الشرقي البديع، أو موضوعيا في نساء مرتكزات على وسائد ملونة وهن يرتدين أيضا ملابس تحمل التأثيرات الشرقية. تقول قيّمة المعرض إن ماتيس أحب العمارة الإسلامية وأشكال الفن الإسلامي، كما تأثر بلوحات الفن الاستشراقي، وهو ما ظهر في لوحات النساء المرتكزات على أبسطة ووسادات وثيرة ملونة.

في هذه الغرفة نجد أمامنا ماوراء إبداع الفنان في تلك اللوحات، فهنا نجد ثلاث قطع من القماش الملون، تقول منسقة المعرض إنها كانت تستخدم ستائر تحجب الشمس، وتسمح بتسلل الضوء من خلال فتحات بها، هناك أيضا مقعد منخفض إلى جانب طاولة صغيرة مطعّمة بالصدف. العرض جميل في حد ذاته، لكنه يكتسب جمالا أكثر لوجود اللوحات التي تجسدت فيها تلك القطع، فكل قطعة منها تحتل جانبا مهما في اللوحات المعروضة أمامنا. في صورة فوتوغرافية نرى استعداد ماتيس لرسم إحدى اللوحات، ونرى امرأة متمددة على بساط ملون وترتكز إلى وسائد وثيرة، وفوقها علق الفنان قطع القماش الملون. من خلال تلك النقلة ما بين القطع الأصلية والصورة التي تصور مراحل عمل الفنان، وبين اللوحة النهائية نجد أنفسنا منغمسين في عالم فنان مبدع، ونرى كيف تحولت القطع الصامتة أمامنا لتصبح حية متلونة وكأنها تتنفس في لوحاته.

في عالم من الإشارات

الغرفة الأخيرة تأخذنا لعالم القصاصات الملونة التي أبدعها ماتيس في نهاية حياته، وهي السنوات التي أقعدته عن الحركة فصبّ جل فنه وعبقريته في قص الأوراق الملونة ليخلق منها عوالم من الأشجار والبشر والبحار والحوريات. هنا لوحة خشبية بديعة منحوت عليها بلون ذهبي بعض أشكال الحروف الصينية، رموز مجردة وبسيطة يستوحيها ويبدع من خلالها. وفقا لما نشر بصحيفة الشرق الاوسط.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.