الفنان محمد نصر الله
الفنان التشكيلي الفلسطيني الأردني “محمد نصر الله” المولود في مدينة عمان عام 1963، من أصول فلسطينية عاشت حياة التشرد واللجوء، وبنت مجدها الثقافي في صور إنسانية وجمالية متعددة. عاش طفولته متيماً بالرسم والتلوين والبحث عن فضاء حريته الفردية التي تُمكنه من تقديم ذاته كرسام ومصور حالم بمستقبل شخصي زاهر، مُحمل بالأحلام الوردية الزاخرة التي تقربه خطوة من واحة الوطن الفلسطيني المستلب الذي يمثل جوهر حريته المنشودة في حبكة حريتها وتحررها كذات جماعية. شغله الفن في عموم مراحل تعلمه المدرسي، ودخل في مجاهله وأغواره وتفاصيله الجمالية والتقنية في سن مبكرة. 

فكانت مدينة عمان موئلاً مناسباً لصقل مواهبه ومده بالخبرات الأكاديمية اللازمة. في البداية تابع دراسته الأكاديمية معهد الفنون الجميلة، مستكملاً مدارات بحثه في المركز الثقافي الإسباني، الذي منحه شهادة دبلوم تخصص في ميادين الرسم والتصوير. أقام عدة معارض فردية وأكثر من مئة مشاركة جماعية داخل الأردن وخارجه في الوطن العربي وأوروبا، وهو عضو نشط في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين. 

معارضه ولوحاته تحمل في ثنايا تسمياتها هذا الفيض الجمالي والمعاني الدلالية الممجدة للإنسان والأرض والطبيعة عموماً. تشدك كمتلقي إلى واحة أسراره وخلفيات رؤاه الذاتية وأفكاره. وكأنك في استعراض مسرحي درامي لأبطال نصوصه ومفرداته التشكيلية، المتوالدة من عالم الأدب والرومانسية والصوفية الروحانية، وغنائية اللون، وتجليات الصورة الموصولة برجل حالم ومتفائل وشاعر تقني ما زال يعيش حلمه الشخصي، مندمجاً مع واقعه اليومي المعاش بلغة سرد بصري شفافة قلّ نظيرها. 

كانت وما زالت لوحاته محتفظة ببريقها الوصفي، وبأساليب رحلته الماجنة في فضاء الخط واللون والمساحات، وتواتر العلاقات الشكلية والتوليفات الجمالية لمضامين رموزه التي تحمل مدادها السردي المقصودة في حبكتها التقنية والموضوعية، والتي يسعى من خلال مجموع معارضه الفردية والجماعية روز واختبار مواهبه وقدراته الأكاديمية المكتسبة. وكان أميناً ومنحازاً لذاته المبتكرة وتفرد خصوصية تجاربه. مُقدماً عشرات اللوحات التصويرية المتغنية في مدادها الوصفي، بالإنسان كجوهر، والطبيعة كمظهر، والحرية كمساق سرد روحاني لمجاز قوله الفني التشكيلي. حرية مفتوحة على المحاكاة الرمزية للطبيعة والإنسان، باعتبارهما المكون البصري الأساسي في عموم لوحاته، وبمثابة ذاكرته البصرية النفوذ إلى قضايا الإنسان وهمومه وتجلياته عموماً والفلسطيني خصوصاً. 

وكان التجديد سمة ملازمة لتجلياته البحثية والممزوجة بثقافة معرفية عديدة محلية وأعجمية، متناسلة من متن الكتب الفلسفية والأدبية، لتختمر في معامل اختباره الذاتي ومخيلته الولود الجامعة. في سياق لحمة تصويرية جامعة، لتخرج مزق متوالدة أيضاً فوق سطوح خاماته. ولتنسج معالم حداثتها بصور وتداعيات تقنية متعددة الخصائص والجماليات. ولتوصله إلى بر أحلامه، وتلامس واحة مخزونه وتمكنه ومقدرته على فهم وتطويع طاقات الخامات والمواد التقنية المستعملة، خدمة لمجاز وصفه ومعانقة لقيمه الإنسانية والجمالية، والممزوجة بشيء من الصوفية والروحانية وغنائية اللون ومساراته الشكلية المتحررة، والراقصة في فضاء الفكرة وخلفيات المضامين التي تدور في فلكها. 

والمتتبع لمسيرة تحولاته وخبراته، يجده دائم التنوع في الشكل والمضمون، وكثير العزف على مسارات البحث التقني في تجلياته التصويرية المتنوعة أيضاً. متنقلاً ما بين حدائق الواقعية المحدثة، والرومانسية، والرمزية والغنائية اللونية متوصلاً إلى مدارات تعبيرية مفتوحة على فضاء متسع للحرية السردية التجريدية، كمحاولة بصرية منه للإجابة على أسئلة ذاتية تدور في مخيلته وحدسه وأحاسيسه كفنان حالم ومتبصر بما يجري حوله من مظاهر وجود طبيعة وإنسان، والرد تشكيلياً على أسئلته المفتوحة لمدارات الأمل والوجود والحياة. 

وتجوب لوحاته في غمار مقاماته الصوفية، المشبعة بغنائية اللون ورتابة المساحات والخطوط الحاضنة. وتبني مجدها السريالي وتجريدها الغنائي حكاية تشكيلية لا تنتهي في حدود معرض هنا أو هناك. لها بداية ولا تعرف مداها السردي. سريالية وتجريدية غنائية متدثرة بعباءة الرمز والإحالات التشكيلية والرومانسية، وقائمة على أسس “الموسقة التقنية” لتوزع العناصر والمفردات ورقص الخطوط والملونات داخل لحمة التكوين وفضاء اللوحات. معنية على الدوام بالتناغم الشكلي ومحددات التحامه بالمضمون. ومحتوى مُشبع بالتضمين والتورية والمجاز البصري للمرسل التشكيلي عبر تنويعات التجلي في ذاكرة المكان العربية، جوهرها الباطن والخفي فلسطين المغتصبة دائمة الحضور في خلفيات نصوصه، كمداد رمزي ومجاز شكلي مشهود في كثير من لوحاته. 

تقنياته وتخير عجينته اللون وأدواته متحررة أيضاً من قيود الرتابة، يوظف ما امتلك فيها من موهبة خبيرة ومدربة في ميدانه، ويطوعها لتسبح في أتون تجلياته التصورية، يُمسك بمفاتيح العائلة اللونية الجامعة والمتجلية في الألوان الخمسة الرئيسة: ( الأحمر، الأصفر، الأزرق، الأبيض، الأسود)، ويُدخلها مجرة معاركها التصويرية المنثورة على سطوح الخامات المستعملة، تدريجات لونية لا متناهية، تفسح المجال للخطوط والمساحات والأفكار. تستمطرها جميعاً في لحظة تجلي، مُشكلة عالماً تشكيلياً حافلاً بالخصوصية والتميز، والتفرد الشكلي والتقني والجمالي. 


فلسطين ونضال شعبها حاضرة في جميع لوحاته الواقعية والرمزية والرومانسية منها والتعبيرية والسريالية والتجريدية، تجدها واضحة التقاسيم والوجوه والمفردات المتوالدة من ذاكرة مدينة منسية هنا، أو مخيم لجوء هناك، وحافلة بجماليات القرى وحركة النسوة والفلاحين والمقاومين. الإنسان جوهرها والأرض مدادها الشكلي. وروحانية الوصف والتجلي سمتها الخاصة والمميزة لفنان مميز أيضاً، آثر أن يكون علماً مميزاً في ميدانه.
ـــــــــــــــــــــــ

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.