1. الأليغوريا: الدال والمدلول – مارسيـل دو كريـف
ترجمة وتقديـم: سعيد بن الهاني
يشكل مصطلح «الإليغوريا» أهمية قصوى في الدراسات الأسلوبية للنصوص، بما يقتضيه معناه من اكتشاف الدلالة المستورة لنصٍ ما بقيت مختفية، وكأن الأمر يتعلق بتوسيع منطقي ونسقي مفصل لرمزها، في إطار الصراع الأبدي بين الدال (أي ما يقال) والمدلول (المعنى المجازي). لعب هذا المصطلح دوراً جوهرياً في تشكيل الثقافة الأوروبية، توسعت دلالاته عبر العصور، (من العصر الوسيط إلى حدود القرن العشرين). استجابت مضامينه للنزعات والأهواء الفكرية للحقب والعصور المتعاقبة، فتوزعت بين حقول عدة: دينية، أخلاقية، تاريخية وأدبية…إلخ. هل تكمن ماهية «الإليغوريا» في كونها غير مرتبطة بمعنى نهائي، يمكن عقلنته بسهولة؟
إنه السحر الخاص للأليغوريا الذي يجعلها تحتفظ بمعناها في باطنها، وكأنها دعوة ضمنية للقراء «بمغازلة» النصوص و«مراودتها». تعكس الأليغوريا ـ التي يترجمها البعض بالتمثيل ـ التاريخ الطويل للأدب الغربي الذي اهتم بالكشف عن محتويات الصور المجازية من تشبيه وكناية واستعارة… إلخ. لن يمنعنا ذلك من الإشارة إلى أن الإنجازات الباهرة التي قدمها تراثنا النقدي البلاغي العربي، دون استثناء ممكنات الخطاب الصوفي بمختلف مشاربه، ابتداء من القرن الثالث هـ ووصولا إلى القرن 7هـ، بذلت مجهودات كبرى لإدراك تفاصيل العمل الأدبي والتعرف على مكوناته وفق مقولات نقدية ـ حتى وإن ظلت خاضعة لسلطة النص المركزي الديني- اعتمدت في غالبيتها على أساس لغوي ونحوي يميل إلى مفهوم التقارب والتشابه والتماثل .لقد ظل هذا المفهوم متأرجحاً بين المعنيين الظاهري والباطني،الحرفي والمجازي .
نقدم للقارئ ترجمة لهذا المفهوم، هي عبارة عن مجهود جماعي قام به مجموعة من الباحثين من مختلف الدول لإنجاز معجم دولي للمصطلحات الأدبية نشر على شبكة الإنترنت.
الأليغوريا
أثلة:
أصل هذه الكلمة من اللاتينية (Allegoria)، المنسوخة طبق الأصل عن الكلمة اليونانية (Allegoria)، المشكلة بنفسها من كلمة Allos وتعني «آخر» (agoreuiein) أي «تكلم»، وبالضبط (تكلم وسط الجمهور) (فكلمة Agora هي الساحة الشعبية). لا تعني هذه الأثلة إلا صيغة من التعبير غير المباشر: أن نتكلم بطريقة أخرى، أن نقول شيئاً آخر غير الذي نقوله حرفيّاً.
دراسة دلالية / تعريفات:
1- (اللغة المستعملة، أيقنة): تعين هذه الكلمة (أليغوريا) عادة تمثيل تجريد ما أو مفهوم أخلاقي ما بواسطة صورة إنسانية مجهزة بصفات رمزية تطابق كل سمة سمة أخرى بعناصرها الممثلة، وإن كان ذلك ليس شرطاً ضرورياً. ترمز في فرنسا أليغوريا العدالة إلى صورة امرأة واقفة وهي تحمل بإحدى يديها السيف، وباليد الأخرى الميزان، بينما على عينيها توجد عصابة تحجب عنها الرؤية.
2- (البلاغة والأسلوبية): استـعارة مسترسلة، ثم اسـتـعـارة تتطور فـي اتجاه السرد، وتسمح بـقـراءة مـضـاعـفـة. وهـكذا يـبـرهن (Boileau) بـوالـو فـي (L’huître et les plaideurs) ( المحار والمتقاضون) على حركية العدالة.
3- (الأدب): لقد طبق هدا المصطلح تبعا لسيرورة من المجاز المرسل، (نقل) على الأعمال نفسها التي استعمل فيها هذا النمط من التعبير . لقد تم إذن إدراك هذه الأليغوريا كجنس أدبي.
تعليق / تحليـل:
وجد النقد صعوبة كبرى في محاصرة المفهوم الذي يشمل مصطلح الإليغوريا. لقد تم اعتبارها لمدة طويلة صورة رئيسة للأدب. تحددت الإليغوريا في العصور القديمة اللاتينية كصورة مجازية جاءت لخدمة الخطابة. إذا قمنا بترجمة الكلمة اللاتينية (Immutatio) بـ(Allégorie) كما فعل ادموند كوربو تعتبر هذه الجملة التي منحنا إياها سيسرون، مثالاً لأليغوريا مختزلة في صورة واحدة ووحيدة، يقول فيها:
«من بين عدد دعابات الكلمات، نعتبر تلك التي تستخلص من الأليغوريا، من الاستعارة، وقلب المعنى. والأليغوريا: اقترح روسكا قديماً قانوناً سنوياً، فطلب منه خصمه سرفيلويس، وقال: قل لي بينارويس، إذا تحدثت ضدك، هل ستجيبني شتماً، كما فعلت مع الآخرين؟ فرد عليه بينارويس: (إننا نحصد ما زرعناه) (De Oratoire, Livre II, par, 261, Paris : Budé, P116)
ميّز كنتيليان في كتابه: Instituo Oratoriae بين أليغوريات بسيطة وأليغوريات «مختلطة». وفي كتابه «صور مجازية» «Tropes»، يعرف الأليغوريا بقوله: «تعني الأليغوريا باللاتينية: Inversio، يقدم فيها معنى آخر غير المعنى المتعلق بالكلمات، بل أحياناً يكون مناقضاً له في الحالة الأولى، تعني الأليغوريا خاصة متتالية مستمرة من الاستعارات» (Paris, Belles-Lettres, T.V, Livre VIII pp115-116 Trad de jean Cousch).
لكن الأليغوريا تعتبر في غالب الأحيان «مختلطة» يقول (ك): «يوجد الجمال الأكبر خاصة في أسلوب يجمع جاذبية ثلاث صور: التشبيه، الأليغوريا، الاستعارة» (pp117.118). ومع ذلك، وبالنسبة لكنتيليان، يجب على استعارتي الانطلاق والوصول أن تكونا متشابهتين كذلك، لأن البدء بعاصفة والانتهاء بحريق سيكون له أثر (تأثير) سيئ بالنسبة للفن الخطابي. بل إنه يدين الأليغوريا المعتمة التي ستصبح إذن «لغزا»، غير متلائم مع الوضوح المفروض بواسطة هذا الفن.
يلجأ الشعراء اللاتينيون إراديّاً إلى الأليغوريا، مثلاً، لتصوير الصفات الأخلاقية، مثل: أبيلي في (Psyché et L’amour) والكاتب برودانس في كتابه (Psychomachia) وبويس في كتابه (Consolatio philosphia).
لقد كانت الأليغوريا إلى حدود تاريخ حديث تعني استعارة موسعة. فقد كانت كذلك عند أنطوان ألبالا في مؤلفه (فن الكتابة تعليمه في عشرين درساً) L’art d’écrire enseigné en vingt leçon, paris Amand Colin, 1906, 12 édition)
وما دام قد كان لهذا الكتاب سلطة ما، فقد اقترح صاحبه ما يلي: «لا تعتبر الأليغوريا في غالب الأحيان إلا استعارة مسترسلة بواسطة سلسلة من الصفات، عليها أن تبدأ وتنتهي مع الجملة، مثلما هو موجود في هذه الجملة لـ بوسيي، هذه النبتة الشابة، المروية بماء السماء، والتي لن تدوم طويلاً بدون أن تؤتي ثمارها». (P277).
لقد برهن تزيفتان تودوروف، وبعده مازاليغا وجورج مولينيي، على أن «الأليغوريا لا يمكن أن تختزل في صورة بنيوية صغيرة» (Dictionnaire de stylistique Paris PUF, 1989, p9) بالنسبة لهم فقط «وحده السياق الكبير هو ما يثير ويفرض الطابع التصويري للخطاب الأليغوري»، يقال ذلك، عندما تعتمد الأليغوريا على الاستعارة كنقطة انطلاق، فبإمكانها أن تكون صريحة أو ضمنية. عندما تكون صريحة أو حاضرة (In presentio) فبإمكانها أن تدمج بواسطة مقارنة أو علامات لغوية يسميها بعض الملاحظين كهنري موريي بـ «الواصلات البلاغية» التي تمنح المفاتيح القرائية. ومن ثم، تنتهي قصيدة البطريق لبودلير، باعتبارها أليغوريا الشاعر بوضوح بهذه العبارة: «الشاعر شبيه بأمير السحاب». أما الأليغوريا الضمنية أو الغائبة (في غياب المشبه)، فإنها تفهم فعليا بواسطة السياق. ومن ثم، فإن بوالو في كتابه «الفن الشعري» (L’art poétique)، ولكي يفهم أن الأسلوب اللين أكثر تفضيلا من الأسلوب العنيف، فقد تتبع في مجموعة من الأبيات استعارة الجدول المائي، مع اقتراح هذا المشبه به:
«أحب أكثر جدولاً مائياً على منبسط رخو»
J’aime mieux un ruisseau qui sur le mole arène.
«في مرج أزهار كثيرة أتنزه ببطء»
Dans un pré plein de fleurs lentement se promène
«بفيض جارف ومجرى عاصف»
Qu’un torrent déborde que, d’un cours orageux
«أسطوانة (خشبية) مملوءة بحصى على مساحة أرضية موحلة»
Roule, plein de gravier sur un terrain fangeux
النشيد 1 Chant I
لقد استمرت الأليغوريا كإجراء بلاغي في الازهرار داخل الأدب، بما في ذلك الأدب الرومانسي، استعمل كلٌّ من شيلي ولامارتين الأليغوريا استعمالاً واسعاً، بطريقة فيها حرية أكثر، وتشفير أقل، كلا الطرفين شخصاً الظواهر الطبيعية خاصة إلى درجة أن الناقد الإنجليزي جون رسكين / John Ruskin رد بفعل عنيف ضد ما يسمى «بالمغالطة العاطفية» (Pathetic Fallacy) معتبراً أن إسناد العواطف إلى موضوعات جامدة يعتبر خدعة.
إذا كان رينان في فرنسا، خلال القرن 19، قد رفض الأليغوريا بقوله: «الأليغوريا هي أساساً باردة وخشنة، فالشخصيات فيها فولاذية، وتتحرك جميعها داخل حجرة واحدة».
(Histoire des origines du christianisme. Vie de jesus. Paris, calman-levy, 1863—tome2 p5201883
فإن شاتوبريان قد دافع عنها في كتابه (عبقرية النزعة المسيحية): Le génie du christianisme بقوله: (تشبه الأليغوريا الأخلاقية، الصلوات عند هوميروس Homère، جميلة في كل الأوقات، وفي أي بلد، وأي دين، لم تحظرها المسيحية). فقد أعطى مثالاً ببرميلين (واحد للخير وآخر للشر) على قدم عرش «الملك الحاكـم». ( Ch II, pléiade, pp721–722) أما /بودلير/ كما رأيناه، فيطبقها بنـفسـه. إنـه أحـد المـتـحـمسين المدافـعـيـن في الحدائق الاصـطـنـاعـيـة (Les Paradis artificiels) يقول عنها: «تعتبر الأليغوريا هذا الجنس الأكثر روحانية حيث عودنا الرسامون عديمو المهارة، على احتقارها، لكنها حقا تعتبر واحدة من الأشكال الأكثر بدائية، والأكثر طبيعية للشعر» (‘’Ch ch .IV, L’homme-dieu’’ pp :305-306).
تعتبر القصيدة المعنونة بالتحديد «أليغوريا» نفسها أليغوريا العاهرة جاءت على شكل امرأة «تضحك للموت. وتحتقر الفجور» (Les fleurs du mal, CXIV, Pléiade, p130).
بينما تتطور الصورة الأليغورية في الأدب أحياناً سرداً، تعتبر الخرافة الحكمية L’apologue، حكاية تحمل في طياتها لدلالات أخلاقية وهي سند مفضل للأليغوريا. نفس الشيء بالنسبة للحكاية (الحيوانية) Fable. مثل مؤلف (L’huître et les plaideurs) المحار والمتقاضون بوالو الذي برهن على حركية العدالة، وعلى الحكمة (Parabole)، مثلما نجد في الأناجيل، والقصيدة السردية الملتزمة.
تستمر الأليغوريا في هذه الأشكال الأدبية، بخلاف الأسطورة والرمز في التميز بخاصية دلالتهاالمتشابهة، بمجرد ما يتعرف القارئ علاماتها. وهكذا في الكتاب(بؤس المآسي) لأكريبا أوبينيي (Des tragiques d’Agrippa d’Aubigné).
يتعرف القارئ بسهولة، عبر صورة فرنسا كأم مزقها أولادها، على كل من أم آصو ويعقوب، فرنسا نفسها التي وزعتها الحروب الدينية «أريد أن أرسم فرنسا أمّاً مكروبة بين ذراعيها، طفلان محمولان… «8230». يثير عنف الأخ القوي جدا (الممثل للكاثوليكيين)، وكيف أن الأخ الآخر ( الممثل للبروتستانتيين): «في النهاية يدافع وغضبه، محق، يعيد للآخر معركة تكون ساحة الحرب فيها هي الأم». (Paris : Garnier, 1931, p4). في القرن 19، وفي سنة 1831، يلجأ أوغست باربيي/ إلى نفس نمط الأليغوريا، يسرد في القصيدة الطويلة مصير فرنسا النابليونية عبر قسمات فرس أصيل يخيله الديكتاتور، خلال سباق طويل أو بسبب التعب ينهار. فينهار معه فرسه («الصنم» L’idole فـي: In: (Poésie, Iambes et Poèmes, Paris lemerre, 1898 p.p34-36) يوجد مسبقاً في هذه الأمثلة «تأليف اليغوريا» حقيقية وليست مجرد صورة بلاغية بسيطة.
يمكن للأليغوريا المتطورة (L’allegorie developpee) كذلك أن تقدم كواحدة من الدلالات التي يمكن للقارئ أن يمنحها للعمل المركب والمتعدد. وقد كانت هذه هي الحالة في العصر الوسيط في أوروبا. لا نبحث فقط عن المعنى الألـيـغـوري (Sensus allegoricus) في الإنجيل أو عند أوفيد، كما يفعل ذلك مثلاً هيوغس دو سانت فكتور، سكوت إيرجين أو كذلك فيليب لونوار في كتابه(La mer des histoires en 1488) بحر القصص في سنة 1488، بخصوص سفر التكوين (Génèse)، ولكننا في المقابل نلجأ إلى الأليغوريا باعتبارها واحدة من التشاكلات (Isotopies) الموجودة في خضم كل الأشكال، وداخل كل الأجناس الأدبية؛ وانطلاقا من النقد اللاذع ، كما هو عند راوول دوهودنك، في القرن 12، وفي الأعمال السردية الطويلة النفس مثل الرواية والملحمة، وهكذا يمكن لرواية الوردة (Roman de la rose) في القرن 13، أن تقرأ كقصيدة إليغورية واسعة. الجزء الأول الذي كتبه كيوم دولوريس نحو سنة 1235 يحكي حلما يتغنى فيه الشاعر العاشق بالوصول إلى المرأة المحبوبة، الممثلة بوردة «بــستــان حــب» (Au verger’amour) على الشاعر أن يحارب ضد كل أنواع الكليات المشخصنة (خطر، غيرة…إلخ)، وسيساعده آخرون بيل أكوي، وطبعاً الحب. سيستمر جون دو مينينغ في كتابة هذه القصيدة انطلاقاً من سنة 1270-1269 إلى حد استيقاظ البطل. ففي بداية القرن 14 سيتأثر دانتي نفسه برواية الوردة في عمله الوليمة (1307-1304) حيث سيعتبر «المعنى الأليغوري» من بين أربعة معان (المعنى الحرفي، الأخلاقي، والباطني) وفقها يمكن للأعمال الأدبية أن تفهم وتشرح. يتم تحديد المعنى الأليغوري كمثل «ذلك الذي يختفي تحت معطف هذه الحكايات الخرافية (Fable) باعتبارها حقيقة مختفية تحت غطاء هذا الكذب الجميل» Pléiade, trad. André Pézard p313.
لقد وظف دانتـي بطبيعة الحال، عقيدته في مؤلفه Divine comédie commedia الكوميديا الإلهية. من خلال الأناشيد الثلاثة: «جهنم»، «المطهر» و«الجنة». يمكن للقارئ أن يتبع المسار الطويل لدانتي البطل الشاعر الذي ضل عن الطريق الصحيح بالنسبة «لليمين» نحو التحول عكسه. لقد اتفق المعلقون على هذا المعنى الأليغوري، لا يمكن لمعنى الكوميديا الإلهية أن يختزل فيه مادام المعنين الأخلاقي والباطني (الروحاني)، الأكثر قابلية للنقاش، جاءا لينضافا إلى هذا المعنى.
شغلت الصورة الأليغورية عدداً من القصائد والروايات خلال القرن 17 «يتعلق الأمر، كما ذكر ذلك ألان راي في مقدمته لمعجم فيروتيار، بإجراء جوهري مرتبط بتأليف عالم العصر الوسيط، والقرن السادس عشر المنبثق من العقائد الهيرمينوطيقية الممتدة حتى حدود القرن السابع عشر وما بعده»(p31). تبعا لسيرورة المجاز المرسل، وفي نفس الحقبة، طبق هذا المصطلح على الأعمال الأدبية التي استعمل فيها هذا النمط من التعبير، مثل كتاب «الأليغوريا الجديدة»، أوكتاب «تاريخ الاضطرابات الأخيرة التي وصلت مملكة الفصاحة» لـ انطوان فيروتيار نفسه، حيث أثير الصراع الذي دار بين المتحذلقين المجتمعين حول جورج ومادلين دوسكودري، وخصومهم، وبالضبط لبي دوبينياك. أخذت الأليغوريا مع فيروتيار نبرة نقدية وهجائية، مستقاة من إجراءات الجنس الهزلي. أما في القرن الثامن عشر (18) فقد أصبحت الأليغوريا جنساً مصرحاً به. ومن ثم فإن عمل فولتير معبد الذوق (1733) قد تم إدراكه حسب شكل أليغوريا نثرية وشعرية حيث يحكي الكاتب عن زيارة لإله الذوق، ويمنح بروحه الساخرة المألوفة، مدائح (خاصة) وتوبيخات لكتاب عصره أو كتاب العصر السالف.
لا تنتج الوظيفة الأليغورية للنص بالضرورة من إرادة الشاعر والناسخ، كما لا يمكن أن تكون إلا نتيجة تلقٍ خاص، ولا يمكن أن تبنى كما هي كذلك إلا عبر كتابة جديدة لقارئ معين. هذا فضلا عن أن التأويل الأليغوري للأساطير لا يطابق بالضرورة معناها الأصلي و كذلك بالنسبة للحكم الإنجيلية. وهكذا ففي القرن 17 في إنجلترا هذه المرة فقد أول عمل الملكة الأسطورية(1596-1590) لأدموند سبنسر في معناه الأول، كمتتالية من المغامرات (المتخيلة) لبعض الفرسان، وفي معناه الثاني، فقد رأينا تشخيصات أليغورية مشكلة من الفضائل والشرور. وتلميحات إلى السياسة والدين، نفس الشيء وأكثر نجده في عمل مسيرة الحجاج (1684-1678) لجون بانيون /John Bunyan/ حيث وجد فيه بعض النقاد رسالة دينية. يجب القول بأن العنوان الأول الجامع يمكن أن يفسح المجال لهذا التاويل التالي:
the pilgrim’s progren from this world to that which is to come, delivered under the similitude of a dream. whereinis discovered the manner of his setting out, his dangerous journey, and bage arival at the desired country.
إن انتقال الحجاج من هذا العالم إلى العالم الآخر القادم الشبيه بحلم، من خلاله نكتشف البداية والرحلة الخطيرة في هذا العالم، والوصول الحكيم إلى البلد المشتهى.
تظهر الخاتمة هنا بوضوح : كل شكل استعاري قابل لتأويلات مختلفة انطلاقا من وظيفة الفضاء- الزمن الذي يتموضع فيه تلقي هذا الشكل.
كانت الأليغوريا منذ القرن العشرين، موضوع جدالات عديدة. قام أنصار النزعة الحداثية والنقد الجديد بمعارضتها، فانتقدوا بالأساس صدورها عن تصور مثالي، كما انتقدوا تشجيعها لتضمينات فردية مبالغ فيها. وهكذا فإن إيفور ارمسترونغ ريشاردز اعتبرها مثل «آلة ميكانيكية» خالصة، أما إزرا باوند فقد انتقد طابعها المجرد جدا أما لويس فقد أقام في مؤلفه (أليغوريا الحب) (oxford university press, 1953) تفريقاً رمزياً تامّاً استنبطه من التراث الروحي السياسي أو السيكولوجي الغربي. يقوم الحكم المناهض لأتباع النقد الجديد والحداثة أساساً على مظهرين فيما يتعلق بتصوراتهم الجمالية: أطروحة استقلالية النص ـ الصنيع ،Arte- fact، وارتباط الأدب بأسطورة جماعية ومتواترة. إنها عقيدة لا تترك إلا حيزاً صغيراً للأليغوريا، كصورة موروثة عن عصر آخر.
فإذا كانت حركة الحداثة أكثر جاهزية-بالتأكيد –لتأخذ بعين الاعتبار بشكل محتوى العمل الأدبي؛ ولكي تسبر أغوار النماذج الأسطورية المجموعة في نص أدبي ما، فإنها بالمقابل اعتبرت أقل جاهزية كي تكتشف المجال الذي يقع بين شكل المحتوى وشكل التعبير، حيث تتطور ظواهر غريبة (بالمعنى الخاص للمصطلح)، متضمنة لترديدات تلميحية، وهو المجال الذي تتطور فيه الأليغوريا بالضبط،حيث يدرج (أو يضمن) المؤلفون الممارسون للأليغوريا والهجاء (ينطلقان أحياناً بشكل ثنائي) بطريقة إرادية الأساطير في نصوصهم لكن على المستوى البلاغي الوحيد. هذا فضلاً عن أن التحليل العلمي الذي نصحت به النزعة الحداثية قد وجد صعوبة في التخلص من الظاهرة الاليغورية، غير الدقيقة جداً، والفضفاضة كي تدرك بأدوات مؤسسة على الصرامة والعقلانية.
لكن منذ سنة 1934، وبدون أن يرتبط بيرانديلو بمدرسة ما، رفض الأليغوريا كنص- صنيع خالص، قال في مقدمةمسرحيته «ستة شخصيات تبحث عن مؤلف»: «أكره الفن الرمزي، الذي يفتقد فيه التمثيل كل عفوية كي يصبح آلة أي أليغوريا، إنه مجهود عبثي، ومفهوم بشكل سيئ لأن الفعل الوحيد الذي نمنح به معنى أليغوريا ما إلى تمثيل معين يبين بوضوح أننا نعتبر سابقاً هذا (التمثيل) الأخير كحكاية خرافية لا توجد فيها أية حقيقة ولا تخييل، ولا واقع فقط جاء من أجل البرهنة على حقيقة أخلاقية معينة». لقد ميز بيرانديلو ـ إذن ـ بين الأليغوريا التي تعتمد على أساس مفهوم ما،و الصورة الـ «حية والمعبرة»، الحاملة لـ «معنى» ما Pléiade, tard. Michel Armand), p997). أما في سنة 1955، في فرنسا فقد ميز الناقد الفني روني هيوغ، في كتابه (حوار مع المرئي) بوضوح بين الأليغوريا والرمز لصالح الثاني. فالرمز بالنسبة له، العفوي واللاعقلاني، له امتدادات غير قابلة للتعريف ولا محدودة. أما الأليغوريا، فعلى العكس من ذلك. فهي لا تشتمل فقط إلا على مفهوم واحد معين، ليس سوى «كلمة ناقصة» إنها تتحدث بدقة أقل عن نص ما، وتفقد سلطتها على اللاوعي (P2s40 ). أما موريي في معجمه الشعري والبلاغي (Paris, PUF, 1981) فقد وسم بصراحة الأليغوريا بكونها «متجاوزة».
يمكن للأليغوريا المتطورة
(L’allégorie développée)
أن تقدم كواحدة من الدلالات التي يمكن للقـارئ أن يمنحها للعمل المركب والمتعدد. وقد كانت هذه هي الحالة في العصر الوسيط في أوروبـا. لا نبحث فقط عن المعنى الأليغـوري (Sensus allegoricus) في الإنجيل أو عند أوفيد، كما يفعل ذلك مثلاً Hugues de saint victor.
للأليغوريا مدافعوها من بين النقاد والمنظرين المعاصرين. يعتبر كلينيت بروكس، في كتابه (جرة الحائط المزخرفة) من بين المدافعين الأكثر تطرفا عن الأليغوريا، جعل من كل القصائد التي يشرحها أليغوريا تتضمن (حكما) مثلاً دينية معينة تختص بماهية الشعر». اتخذ نورثروب فراي هذا التصور لحسابه الخاص وأكد في كتابه (تشريح النقد (1957) بأن كل تحليل أدبي يطابق «نزعة إليغورية» بمعنى يطابق بحثا عن معنى ضمني. أما فالتر بنيامين في كتابه: «أصل الدراما الباروكية الالمانية»(1985).
فقد أكد أن في داخل الأليغوريا «جمالا عميق الغور»(191)، إجراءاً لتفكيك الوهم الذي يسمح باكتشاف الواقع داخل تعدديته: «سيادة (عظمة) القصدية الأليغورية، هدم الجهاز العفوي للتبديد الحي للوهم» (226م) يدقق فالتر بنيامين فيقول: «تحمل الأليغوريا عند بودلير، على العكس من الأليغوريا الباروكية، آثار حنق شديد داخلي كان ضروريا كي يفاجأ هذا العالم ومن ثم كي يهشم ويهدم إبداعاته المنسجمة» (P: 228). لقد تحددت الأليغوريا مسبقاً كإجراء ما بعد حداثي.
من جهة أخرى، مورست الأليغوريا كذلك من طرف كتّاب القرن العشرين. وهكذا فإن الشاعر الإيرلندي ييتس في مؤلفه: رؤيا (1925) يقع في نفس خط سبنسر. يمكننا كذلك أن نقرأ أعمالاً معينة مثل رواية (القصر) لكافكا (1926-1924)، ومزرعة الحيوانات لجورج أرويل (1945)كعملين أليغوريين يتعلقان ببحث استكشافي عن تعالٍ يتعذر الوصول إليه وتأسيس لأنظمة كليانية.في مثل هذه الأعمال، يمكن للبطل إذن أن يعتبر كمنجز للوظائف الأليغورية، مثل اللذة، الخوف، الغيرة إلخ، ويمكننا كذلك أن نعتبر حقيقة بأن كل عمل هو أليغوريا في الوقت الذي يتجاوز فيه مظهره التقريري (الإشاري): تثير القصة المروية لرواية ما فورا قصة رواية أخرى، ضمنية، من وجهة النظر هذه، يعتبر البعد الأليغوري لا هو محلي (موضعي) (Locale) ولا متقطع، إنه بعد عام.
*********************************
المصدر : مجلة الرافد

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.