الفنان عبد الحي مسلم

الفنان التشكيلي الفلسطيني “عبد الحي مُسلم” من مواليد بلدة الدوايمة قضاء الخليل بفلسطين عام 1933، ظروف نكبة فلسطين الكبرى عقب حرب 1948 قادته للعيش في أماكن عديدة خارج حدود الجغرافية الفلسطينية، فكانت المخيمات الفلسطينية المتوافرة في مدن عمان وبيروت ودمشق موئلا مواتياً لهجراته المتعددة. أقام نحو 25 معرضاً شخصياً لأعماله، فضلاً عن مشاركته في 35 معرضاً جماعياً أقيمت في العديد من الدول مثل اليابان والنرويج وفنلندا الدنمرك وسويسرا ولبنان، وسورية، والأردن وليبيا. وهو عضو في اتحاد الفنانين التشكيلين العرب، وروابط ونقابات واتحادات الفنانين التشكيليين في الأردن وفلسطين وسورية.
قد كان لسكنه في مخيم اليرموك بدمشق ما بين 1979 – 1992، أكبر الأثر في تشكيله كفنان له خصوصية تأليف تقني وتفرد أسلوب، واستنباط طريقته الخاصة في تجسيم أفكاره ورؤاه المفطورة على البداهة الشعبية، واللصيقة بذاكرة المكان الفلسطينية الريفية بكل ما فيها من جماليات حلم وتقاسيم حكايات. منتقلاً من فضاء الفطرية التعبيرية المطلقة وصولاً إلى كنف الدراسة الذاتية شبه المدرسية، من حيث تطوير أدواته وخبراته في تخير المواضيع وطرائق بناء اللوحات، وما يشوبها من إضافات تقنية من أصبغة وملونات. وملامح التطور والإجادة في أعماله كانت متأثرة بحاضنته الفنية من فنانين تشكيلين عرب وفلسطينيين لهم حضورهم في الوسط التشكيلي السوري، أمثال الفنان السوري “ممدوح قشلان”، والنحات المصري “محمد هجرس” والفنان الفلسطيني “مصطفى الحلاج”، ولفيف من الفنانين التشكيلين الشباب الذين أحاطوه بالحب والدعم والاهتمام. من كونه يُمثل الأب الروحي للعديد منهم لجودة مسلكه وتفاعله معهم، باعتباره نموذجاً طيباً يجمع في شخصيته جماليات الفن والإنسان.

هو بلا أدنى شك، فنان فطري استثنائي يُقدم أعمالاً فنية استثنائية أيضاُ، تعلم الفن على نفسه، ولم يدخل محترفاً أو مدرسة، وبدايته كانت في سن متقدمة، جاءته كطفرة مفاجئة وهو في العقد الرابع من سنوات عمره، وتُعد سنة 1971 خطوة البداية في رحلته العامرة بالعطاء. وقد تكون باعتقادي الشخصي ناتجة عن خيبة أمله في موقعه كجندي مقاتل في منظمة التحرير الفلسطينية وجيش تحريرها، ودخوله في حالات الانكسار والخيبة، وهو الحالم أبداً بالنصر وتحرير فلسطين من بحرها على نهرها، ومتفائل بالعودة إلى موطنه ومسقط رأسه، وأن مسيرة الأحزان والفجائع اليومية الفلسطينية أدخلته في مساحة اليأس والقنوط وفقدان الأمل، ومعابر الانكسار الحسي والمعنوي والوجودي. دفعه ذلك للبحث عن طريقة ما لبلوغ ذلك الهدف النبيل في التحرير والعودة، وكانت أعماله واختياره لفنه بمثابة ردود أفعال ذاتية رافضة لذلك الواقع وباحثة عن مسالك ما، تُمكنه من تحقيق طموحة ونقل رسالته الوجودية عن طريق جبهة الثقافة والفنون التشكيلية التطبيقية خصوصاً، لاسيما وهو المُتمتع بذاكرة خصبة ومخيلة مفتوحة على فضاء الوطن الفلسطيني من أقصاه إلى أقصاه.

وجد في مواد وصنائع مهنية حرفية مؤتلفة من نشارة الخشب والغراء الأبيض وأدوات خشبية ومعدنية بسيطة ميدانه العبثي، ومجاله الحيوي لترجمات حسيّة ملموسة مُعبرة عن معين فنه وتكريس رؤاه وانفعالاته، وترجمة تعبيرية صورّية لأمانيه ورغباته، وبوصلته المنشودة وطريق الهدى لاكتشاف نفسه كإنسان ومشروع فنان. ولأنه كان محكوماً بالأمل والبحث والمحاولة والصبر والمثابرة، أوصلته جهوده وتجاربه ومحاولاته الناجعة إلى فضاء النجومية المحلية والعربية والعالمية، كعارض نشط ومشارك بارع في ندوات خاصة بالدفاع عن قضيته الفلسطينية العادلة، وله في العديد من الدول العربية والعجمية ومؤسساتها الثقافية والمدنية الأهلية أكثر من لوحة وتذكار كمقتنيات مُعززة لمكانته الفنية بما هو عليه من فطرية تعبيرية ملحوظة.

كان وما زال غزير الإنتاج وبالرغم من سنوات عمره المديدة، يغدو وكأنه شاب في مقتبل العمر، يركض في حقول الفن الفطري بأكثر ما يستطيع للوصول لأهدافه المرسومة، وتعويضاً عن مرحلة زمنية فائتة، وكأنه طائر فينيق من نوع فريد، يأخذ منه مرسمه وفنه كل مأخذ، ويقطف من لحظات عمره ويقظته الوقت الطويل. لأنه محب لعمله ووطنه، وتراثه الشعبي الفلسطيني بكل ملوناته وحكاياته، تعيش جميعها معه في كل خط ورسم وبنية تركيبية من منحوتاته المرصوفة على سطوح الخشب المعالج. منحوتات فطرية ثنائية الأبعاد تأخذ سياقات الروليف الحائطي، تقص أساطيره الفلسطينية وكنعانياته، وتستحضر الرموز والأبطال والشخوص الذين مروا على ذاكرته المتوقدة. نتلمس في أعماله ملامح فسيحة لمحترفات شكلية شاملة لتجليات الوطن الفلسطيني والمواطنة الشعبية، المجبولة بالطيبة والصدق وعفوية التشخيص والتشكيل. شخوص أقرب إلى مساحة الأشكال الموصولة بعبث طفولة هاربة، غير معنية بالنسب الذهبية والقياسية المتبعة بكليات الفنون الجميلة، وليست معنية أيضاً بالمدارس والاتجاهات الفنية الأكاديمية النمطية والمعاصرة، أثر فيها المحافظة على نمطيته الشخصية ومعاصرته لمواده وأدواته ومواضيعه، وتوليفاته الشكلية المحاكية لتقنياته كعجائن ملونة ممتدة على سطوح خاماته المستعملة.

للمواسم الفلسطينية الشعبية حصة وافرة في أعماله، تجود رؤاه البصرية بأيام الحصاد والأفراح متعددة الطقوس والمسميات، وللأحزان الفلسطينية وحكايات الجدود والجدات ثمة متسع لقص بصري، ترسم في معالمها الشكلية غنائيات وبكائيات مفتوحة على البداهة الشعبية. وأخرى محمولة بمقولات سردية متناغمة وحكايات الأرض وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان، والمبنية في مجاز البصر والرؤية على أسس التكافل الاجتماعي، وتعزيز العادات والتقاليد الفاضلة في المجتمع الفلسطيني. كما نجد للمطرزات الفلسطينية مكانة مميزة في كثير من أعماله، يجوب من خلال استعاراته الشكلية وملوناتها الزاهية والمتوالدة من معينها الثري والمتناسقة بعضاً من مقاماته المفتوحة على المكرر والمتقابل والمتجاور، وتغدو بيديه أشبه بسجادة شعبية فلسطينية عامرة بالخطوط والعبارات المكتوبة والملونات.

لوحاته تعكس حقيقة مشاعره وانفعالاته، ولا تخرج عن روحه الباحثة ومزاجه الذاتي في توليف ولائمه البصرية، تخاطب مساحة وجدانه ووجدان المتلقي، ومشدودة على الدوام لفلسطين الأرض والإنسان، ولواحة العروبة والإسلام، وحاضنة للمقاومة في أشكالها المتنوعة، ويخوض غمارها على جبهات الثقافة البصرية. مفتوحة على ذاكرة الصمود في بيروت وحصرها الظالم من قبل العدو الصهيوني عام 1982، والذي خاض يومياتها مقاتلاً وفناناً، مسجلاً فيها أروع المآثر السردية للفاكهاني ولصبرا وشاتيلا ولحظات الخروج المقيت من بيروت. كما دون في الانتفاضة الفلسطينية التي عرفت بثورة الحجارة بفلسطين عام 1987، سجلاً ذهبياً وضع فيه أجمل مقاماته الشكلية، وكذلك الأمر بالنسبة لانتفاضة الأقصى المباركة عام 2000 التي أنجز فيها عشرات اللوحات، ولتكتمل دورة تفاعله مع قضايا شعبه وصموده الأسطوري في مواجهة آلة الدمار الصهيونية في قطاع غزة عام 2008، أروع الصور البصرية التي ضمنها في معرضه الفني الذي حمل عنوان “محرقة غزة” بلغة تعبيرية مؤثرة.

بنيته التشكيلية بسيطة ومتناغمة مع بساطه كفلاح خارج للتو من حاضرة الأرض ومعاول الفلاحة، يُعد خاماته وسطوح لوحاته بمقاييسها المتنوعة حسب وفرة الخشب ونوعه، سواء أكان بلاكيه معالج، أو “إم.دي.إف”، والتي تفتح شهيته للرسم بأقلام رصاص أو ملونة،، وسرعان ما تكتشف طريقها بمرونة يديه وحركيه توليفاته الشكلية، وطلاقة رؤاه المسرودة بعين البصر والبصيرة، لتسكن في توليفات السطوح ككتل وعناصر مرصوفة وموزعة على هواه ووفق مزاجه الشخصي، غير متكلفة وممتدة على المساحات الواسعة، ومعشبة بعبارات خطية لأقوال وحكم ومآثر شعبية وقصائد وأغاني، تجمع في متنها جميع تفاصيل الحكاية المتوالدة، وتأني عمليات العجائن الممزوجة من نشارة الخشب والغراء في مدادها التقني فوق خرائط التعبير الأولية المرسومة، وسرعان ما تأخذ طريقها بطيئاً كطبقات نحتية متراكمة.لتنتهي بمهارات التلوين وإتمام مفاعيل الأفكار المنشودة.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.