الفنان محمد الوهيبي

الفنان التشكيلي الفلسطيني ” محمد الوهيبي” المولود في مدينة طبريا الفلسطينية عام 1947، والذي عاش وأسرته بعد نكبة فلسطين الكبرى عام 1948م، في مخيم خان الشيح بمحافظة ريف دمشق، وتعلم في مدارسها بمرحلتيه الابتدائية والإعدادية، التي تفتحت بوابات فطرته وموهبته الأولى فيها، والموصولة بميادين الفنون التشكيلية عبر مدوناته الخطيّة واللونية على دفاتره وكتبه وجدران مدرسته، والتي كانت تحظى برعاية مدرسيه وأخيه الأكبر. ليتابع في ظلال المخيم رحلة العمر المحملة بالقهر والتعب وذيول النكبة.

وبعد نيله شهادة الثانوية العامة، انتقل إلى مخيم اليرموك بدمشق ليدخل عالمه التشكيلي من واحة عمله كمدرس لطلاب المرحلة الابتدائية، ولتلقفه منظمة الطلائع السورية، ويُصبح واحداً من أسرتها الفنية التشكيلية، وتفيض خبرته وموهبته حيوية ونشاطاً متمايزاً في ميادين الرسم والتصوير والنحت والتصميم الإعلاني، ورسومات الموتيف الداخلية للمجلات الخاصة بالطفولة. جعلته واحداً من ابرز العاملين في إطارها. وتسنى له متابعة الدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة في سنين متقدمة من عمره، وتحقيق حملة التاريخي في الحصول على الشهادة الجامعية من خلال تخرجه من قسم الحفر والطباعة اليدوية بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1984، ولتكون منطلقاً لشهرته وحرفيته في ميدانه ومقدرته على استنباط خصوصية تقنية وفكرية وملامح إنسانية مميزة في إنتاج اللوحة الحفرية الملونة.
هو بلا أدنى شك فنان موهوب وأكاديمي متمرس، وعلامة فنية تشكيلية فلسطينية معروفة في الوسطين الفلسطيني والسوري، وعضو في اتحادي الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والسوريين، ومُشارك فعال في جميع معارض اتحاد الفنانين التشكيلين الفلسطينيين بفرع سوريا، واتحاد الفنانين التشكيليين السوريين،وبصماته فيها واضحة للعيان. وله أيضاً نحو خمس وعشرين معرض فردي داخل سورية وفي الوطن العربي، وحاصل على مجموعة من شهادات التقدير.

هو بحق فنان الأبعاد الإنسانية ذات المحتوى الرمزي، والعازف الماهر على أوتار الذاكرة الشعبية الفلسطينية والأسطورة، في لوحات متوالدة من حرية البدوي وانطلاقة غير محدودة في حركية الشخوص وملامحها المفتوحة على الأمل، والمسكونة بحزن الفلاح وتعب السنين، ومصحوبة بالمعاناة ودروب الألم الفلسطينية المتوارية في خلفيات النصوص. في بعض معالمها المطلة على ذاته الشخصية وذكرياته المحمولة في ضلوعه وتوليفات مخيلته الصوريّة، مُنسجمة مع مسرود الأساطير وأحاديث العجائز، والسباحة الأنيقة في أروقة مواضيع الواقع والحلم، ورسم حدود انفعالاته المنفلتة من رغبته المفاجئة وشهوته المستديمة على الرسم والحفر والتلوين.

هو فلسطيني في فنه الرمزي المتجلي في تعبيراته، يبوح بجماليات حافلة بإنسانية الإنسان ومدى تحسسه الجمالي بالأشياء والشخوص، لا تقف في وجهه قيود النمطية الأكاديمية، بل تدفعه أكاديميته لأن يواكب العصر ثقافة معرفية وبصرية، وتبقيه في ظلال الفنان التشكيلي المثقف والعارف لحدود طاقاته ومواهبه ودربته، ومقدرته على تطويع خاماته ومواده التي يصنعها بيديه وعلى طريقته الخاصة. لتخرج من بين يديه مقطوعات شكلية حُبلى بالتعبيرات الرمزية، وتفتح شهية المتلقي إلى تلمس أسرارها التقنية وخفايا الفكرية.

الورق والقماش أحياناً هي مجالاته الرحبة، ومداراته الجمالية التي يُعمل في ساحتها بما يمتلك من موهبة وتنويعات سردية، ملتهماً الورق الفضي تارة والذهبي تارة أخرى، بمداد مدحلته الكوتشوكية المُشبعة بالأحبار السوداء، وتصبح بضة ومرنة وخاضعة لعراك البحث ورقص التجريب، ومكشوفة على تخير العناصر والمفردات المتوالدة في لحظة العمل واكتمال الفكرة، وتسعى ببصيرته النافذة على محددات العلاقات الشكلية داخل أسوار لوحاته، تآلفاً ما بين مفردة رمزية هنا، وطبقة لونية هناك. وسرعان ما تُعمل أدواته المعدنية الحادة وريش التلوين والأحبار السوداء والملونة عملها المتقن فوق سطوح الخامة والملونات، وتغدو الأحجية لوحة، وحالة الغموض الشكلي وضوحاً للفكرة ومدلولات المعني.

لوحات “الوهيبي” خارجة من عقال الأنا المثقفة، وتبحث عن موطئ جمالي ولمسة إنسانية تبوح بما في ذاته من رموز ومعاناة ومعاني. الإنسان أولاً وأخيراً، كشاهد إثبات على غزارة إنتاجه، ومفردة مميزة في واحة تجلياته، ومصدر إلهامه الملخصة لدرب رؤاه الشكلية ومُبتكراته. إنسانيته وطيبته المتوارية في تفاصيل شخوصه وأماكنه، تدلك على فهم إشاراته السردية وهويته، وحرفيته ومساحة وجدانه. لوحات محمولة بالرمز وتقاسيم الأساطير العربية الموزعة ما بين الأرض والسماء والماء والإنسان، تفوح منها معاني الحياة وديمومتها، بما فيها من خير ومآسي وحكايات.
لوحاته مكحلة بالتلقائية الشكلية والمواربة في إشارات المعنى، فيها شيء من ذاته ومن يوميات حياته الشخصية، مُدرجة في حلول فنية تشكيلية من نوع السهل الممتنع، عفوية مُتجاوزة حدود الزمان والمكان لتظهر الدور الوظيفي للفنان كشاهد للعصر بأحداثه وذكرياته ووقائعه، مجسداً مؤشرات الابتكار الجمالية في طرائق تقنية متنوعة، وكناقل لرسالة ما، يزاوج من خلال محتواها المعرفي وأساليب الصياغة الفنية للحظات إنسانية ضائعة في أزمنة المادة والعولمة، في علاقات بصرية جميلة وحسّ حركية، مفتوحة على جدلية الفنان ورموزه التعبيرية وما ينتج عن هذا التناغم من تآلف جميل في أبعاده الفلسفية.

اللوحة لديه مؤتلفة من حبكة شكلية، جامعة لمجموع العناصر والمعاني والمكونات التي تظهر شيئاً من المثل والقيم المجتمعة في قوالب وأطر تعبيرية رمزية، جامعة ما بين الفن كحرفة ومدلول عقلاني وما تمثل المرأة المتأملة والحالمة بملامحها العربية وزينتها البدوية والريفية، وما تحتضنه من رموز مثل السيف المرصع، السحلية، الإناء، قالب خبز، الطابع الخشبي، الإيقونات الملونة، الأسماك، الكائنات الحيّة الداجنة، والمتممات الخلفية المزخرفة، والموحية باتساع الفراغ داخل فسحة التكوينات.
تحتضن عشرات الحكايات والأقاصيص وتجعل للموروث الشعبي محددات خاصة لدى الفنان، تبرز عمق النظرة التأملية في النسيج الإنساني المتناسلة في موحيات تلك العناصر, وتعبر في مجموعها عن ذاتية الفنان المؤمنة بالأصالة والمحافظة على التراث، وتكريس لمفاهيم «غيبية» وأسطورة العلاقة الجدلية ما بين «المرأة» مثال الخصوبة والسحليّة، كدليل على التبرك بالخير في العديد من المعتقدات التراثية، أراد لها الفنان أن تنمو مع أعماله وتشكل تعبيراً صريحاً عن معتقدات الفنان الذاتية في سيادة منطق الخير والديمومة وربط الحاضر بالماضي واستمرار لأحداثه.
يتقصد الفنان وضع التأليف الشكلي للتكوين في لوحاته في منظور وحيز مكاني محدد يلبي نظرته الفلسفية، فكانت عناصره المتنوعة تشكل كتلة ثلاثية الأبعاد منسجمة، تظهر التوازن ما بين عناصرها في إيقاع فني جميل. وتشكل الزخارف الخلفية توافقاً لإظهار القيم والبعد الثالث كجزء لا يتجزأ من مجموع الكتلة ككل موحد، مندرجة في قيم لونية منسجمة أحياناً ومتناقضة حيناً آخر، تحمل خاصية اللون الواحد تارة، وإضافات لونية مناسبة متدرجة موحية بملونات المساحات وتوزع البقع الضوئية من خلالها، وتظهر في الوقت نفسه قدرة الفنان على التعامل مع رموزه وأدواته كفنان محترف امتلك مقومات الحفار وأحاسيسه وجودة المصور الملون في تقنياته

__________________

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.