علي السباعي: الأدب العراقي مثل تمرنا يجد طريقه صوب قلوب الناس

علي السباعي: الأدب العراقي مثل تمرنا يجد طريقه صوب قلوب الناس

 

علي السباعي.. قاص عراقي، من مواليد الناصرية 1970، كتب أول قصة قصيرة له بعنوان (عربدة عقب سيجارة الضابط العراقي) 1984، ونشر أول قصة له في مجلة (الإتحاف) التونسية 1997، كانت بعنوان (عرس في مقبرة). ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والهولندية، ونشر العديد من المجلات والصحف العربية والعراقية.

كيف بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

•      أعيش في مدينة الناصرية التي ليس لها قرين: ثقافة، بساطة، عمق، وقابلية على تحويل الألم إلى إبداع، كان الألم يساورني ويعيش بداخلي، يأكلني الحزن على إنسانها المبتلى، وكوننا نعيش في مدينة تقرأ نشأت قارئاً، وأهلها وأهلي يقرؤون ويتألمون، تألمت مثلهم لأنني قرأت أمهات الكتب، تألمت، تألمت، وتألمت، فكتبت حزنهم، بؤسهم، وفقداناتهم الكثيرة.

لم تركز إنتاجك على القصة القصيرة وهل تلقى الحفاوة التي تلقاها الرواية في العراق؟

•      أنا أكبرُ عاشقٍ في مدينة الناصرية، وقعتُ في غرامِ القصة التي طَرَقَتْ بابَ قلبي ولم تغادرْهُ، فصِرتُ أُؤمِنُ بأنَ القصة هيَ: الحبُ، هي الحل. أغرِمتُ بالقصةِ، ونذرتُ نفسيَ لحبي لها، للحب، للخلاص، لخلاصي، ويومَها قالت لي: أنا حبيبةُ أكبرُ عاشقٍ في الناصريةِ. اختارتني من بين الناس حبيباً، فأخلصت لها، والقصة القصيرة العراقية شابة حلوة سمراء مشتاهات بجدائل سوداء يتمناها عشاق القصة مثلما للسيدة (رواية) من مريدين ومحبين.

قصصك تعتمد على مخزون الواقع بما فيه من حروب وصراعات وعذابات مر بها العراق.. هل هذا صحيح؟

•      (علي السباعي)، كاتب القصة القصيرة يعيش مثل نخلة عراقية ضاربة الجذور في أرض بلاد السواد الخصبة بالمعاناة وتنهل من نهرين كريمين عذبين، دجلة والفرات، وعمته النخلة العراقية كم تعاقب ماراً عليها من مآس مازالت تعطي رطباً جنياً.

هل الأدب مرآة للمجتمع يحاول ترميم ذاكرة الناس في رأيك.. ولم؟

•      هدفي مذ كتبت أول قصة في حياتي القصصية: تغيير حال الناس، بتغيير نمط تفكيرهم، تغيير خارطة طريق عقولهم التي رسموها لهم، بخلق وعي مغاير يتأتى من الثقافة الصادمة الحقيقية التي تعيد بناء ما طالته يد الخراب في ذاكرتهم المعطوبة بانكسارات مرة متوالية متتالية.

هل لك محاولات في كتابة الرواية؟

•      غزلت أكثر من واحدة من صوف واقعنا المر، لم يرتدها النور بعد.

 درست أعمالك في عدة كتب من قبل عدة باحثين.. ماذا يعني لك ذلك؟

•      طعم رطب نخلتي القصصية حلوُ كونه جاء من أرض الرافدين وماء دجلة والفرات (معاناة الناس) .

هل النقد الأدبي في العراق مواكب للإنتاج الغزير للأدب في رأيك؟

•      نخيل العراق كثير. لكن الحواة قليلون.

هل ترجمة أعمال الكاتب تتيح له الانتشار أم هي أيضا دليل على جودة كتاباته؟

•      أشبه الأمر مثل تمر العراق الذي يصدر إلى الخارج كونه من أجود أنواع التمور، وتلك الجودة جعلته مرغوباً في أنحاء المعمورة.

حصلت على جوائز كثيرة ماذا حققت لك الجوائز؟

•      حب الناس الذي أقرأه في عيونهم لأنني أوصلت صوتهم للعالم.

في رأيك هل استطاع أن يصل الأدب العراقي إلى خارج حدود الوطن وكيف حدث ذلك؟

•      الأدب العراقي مثله مثل تمور نخيل العراق من أجود الأصناف على وجه البسيطة، وجد طريقه برحلتي الصيف والشتاء صوب قلوب الناس في مختلف مدن الدنيا.

Image

سماح عادل (أرشيف)

صدر له كتب:

1.    إيقاعات الزمن الراقص/ مجموعة قصصية/ سوريا 2002.

2.    صرخة قبل البكم/ مجموعة قصصية/ حصدت الجائزة الثالثة في الدورة الثالثة لمسابقة دبي الثقافية عام 2003/2004.

3.    زُليخاتُ يُوسف/ مجموعة قصصية / بغداد 2005.

4.    احتراق مملكة الزاماما /2006، حصدت جائزة ناجي نعمان/ بيروت/ صدرت في سوريا 2009.

5.    بنات الخائبات/ قصتان قصيرتان/ بغداد 2014.

6.    مدونات أرملة جندي مجهول/ مجموعة قصص قصيرة جداً/ بغداد 2014.

7.    شهرزاد: قدري/ شهادات/ واشنطن/ 2017.

8.    قصص لا تستحق النشر/ مجموعه مؤلفين/ بغداد 2017.

9.    على حافة السرد/ مجموعة ادباء/ القاهرة 2017.

10.  جداريات… منتخبات من القصة العراقية الحديثة قصص/ بغداد 2017.

11.  مَسلّة الأحزان السومرية/ مجموعة قصصية/ بلغاريا 2018.

الجوائز:

الجائزة الأولى في مسابقة [بيت الشعر العربي]  للأعوام (1998، 1997، 1996) على التوالي.

الجائزة الثالثة لمسابقة مجلة /أور الإبداعية / لعام  1999، العراق، وعن قصة :- [ مومياء البهلول ].

الجائزة الثالثة في مسابقة دبي الثقافية 2003/2004 م ، عن مجموعته القصصية الموسومة [صرخةُ قبل البكم].

جائزة (ناجي نعمان)، في لبنان/ بيروت عام 2006، عن مجموعته القصصية الموسومة [احتراق مملكة الزاماما] وقد ترجمت النصوص إلى خمس لغات حية.

الجائزة الأولى في مسابقة أور الإبداعية عام 2006م ، العراق، وعن قصة [ فرائس بثياب الفرح ].

 الجائزة الأولى في مسابقة برنامج (سحر البيان)، الذي أطلقته الفضائية العراقية، عام 2006، حصل فيها “علي السباعي” على درع الإبداع الذهبي في القصة، وسميَّ بقاص العراقية.

  درع الدولة العراقية، درع (إبداع خارج الوطن)، لما حققته للعراق من انجازات وجوائز أدبية، عام 2011 وسلّم الدرع والشهادات التقديرية من قبل وكيل وزير الثقافة العراقية فوزي الاتروشي.

 الجائزة الأولى (مناصفة) في مسابقة أور الإبداعية عام  2007، العراق، وعن قصته الموسومة بعنوان [مزاد الرؤوس العلني].

 الجائزة الثانية في مسابقة (أيلو) للقصة القصيرة عام 2016، ببغداد، وعن قصته الموسومة تحت عنوان:- (رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام).

 الجائزة التقديرية في مسابقة القاص زمن عبد زيد للقصة القصيرة جداً عام 2017, عن عشر قصص قصار جداً.

 الجائزة الثالثة مناصفة في مسابقة الثقافة هي الحل للقصة القصيرة عام 2017 م، ببغداد، وعن قصته الموسومة تحت عنوان:- (كلكامش يغني لسليمة مراد).

جائزة مسابقة (كولدن بوك) للقصة القصيرة في القاهرة-  مصر، عام 2017.

جائزة (ريشة الإبداع) من صالون مي زيادة الأدبي وبالتعاون مع دار النقد الإبداعي في القاهرة – مصر، عام 2017.

 الجائزة الثالثة مكرر في مسابقة شاعر – أديب النيل والفرات بدورتها الثانية بالقاهرة في آذار – مارس 2018، وعن مجموعته القصصية والموسومة تحت عنوان:- (نخلات عاشقات يأكل رؤوسهن الطير)، حيث منح لأثرها وسام ولقب:- “أديب النيل والفرات”.

 درع الإبداع من الدرجة الأولى منحته مؤسسة الولاية الثقافية لمنجزه القصصي المتميز عام 2018.

 الجائزة الأولى للقصة القصيرة في مسابقة المنتدى الثقافي للأصالة والمعاصرة بالقاهرة – مصر  في نيسان – أبريل 2018، وعن قصة الموسومة بعنوان:- (كاكا… عبد الحليم حافظ).

قصة عرس في مقبرة

”كنت أحسب أنني أعيش في عزلة موحشة، كل ما فيَّ ينتمي إلى الماضي، حتى أنفاسي فإنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي. اكتشفت من يشاركني وحدتي.

أنظر إلى الشمس الغاربة، كأنها قرص أحمر ملتهب شرخ حياتي إلى نصفين: عزلة، وخذلان. هكذا! عندما أقوم بجولتي في تفتيش المقبرة خوفاً من عبث السراق، امرأة في عقدها الرابع. تلف حول وسطها عباءة، بدا جسدها مترهلاً، تسحب أنفاسها بصعوبة كأنها قنينة تحشر في الماء عنوة فتطلق فقاقيع الهواء بعنف، وجدتها تنبش أحد القبور، نهرتها قائلاً:

– ماذا تفعلين؟

كخفاش مذعور انتفضت، لتقول بصوتها المخنوق:

– أفزعتني! ألا تراني أتزين لك- في ليلة- زفافنا..؟

أنظر متلعثماً يميناً وشمالاً لكن ألا أحد هنا غيري

– أتسرقين قبور الموتى يا امرأة؟

صوبت سلاحي نحوها، وببلاهة قالت:

– أنا لا أسرق. فقط! أتزين لك.

مذهولاً بما يجري، تستطرد قائلة بصوتها الفقاعي الذي يملأ سكون المقبرة ببقبقة مزعجة:

– تعال شاركني فرحتي في زفافنا، اجلس بجانبي نشاهد جميع الموتى قد حضروا عرسنا، وهم يغنون، يرقصون، ويصفقون لنا.

شلَّتني كلماتها، تراخت يدي الممسكة بالسلاح، لأسمعها تجتزئ بالقول:

– عملت لك سرير الزوجية فوق أحد قبور أثرياء مدينتنا.

كنت دائماً واقعياً، ولم أحلم قط بأن أكون خيالياً. جلت نظري متفحصاً، تخترق عيوني العديد من الهياكل العظمية تصطف على شكل أزواج، العشرات من الجماجم موزعة على مواضع منتخبة بإتقان وقد رتبت على شكل أزواج فوق القبور. علمت ساعتها أن هذه المرأة تعيش جنوناً يشابه حلقات الخوف عندما تنداح لتكبر متحولة إلى هوس مدمر، سحبت حبلاً بجانبها، تراجعتُ مذعوراً إلى الوراء، أصدرتْ الهياكل العظمية طرطقه مزعجة بفعل تصادم العظام مع بعضها، قالت بسذاجة:

– إنها تصفق مرحبة بقدومك.

حاولت استرجاع جرأتي، لم أفلح، نقلت بصري بينها وبين الهياكل العظمية، الجماجم التي تحدق بي بمحاجرها الفارغة كأنها صقيع بارد يجمد الأجساد فلا تبقى سوى النظرات البليدة، ارتفعت القعقعة تصدر من حولي تزعزع يقيني بما أشاهد، تحسست وجهي، قرصت يدي بقوة تأكدت أنني لم أكن أحلم، والشمس بانحدارها نحو الغروب تترك صبغتها الحمراء كالدم تعتمر بها قمم القبور، لم يبق بداخلي جزء إلا وارتجف، راح جسدي يتصبب عرقاً غزيراً، داهمني شعور بأن نذير شؤم ستحمله الساعات القادمة، ارتفع صوتها كالانفجار:

– سنزف خلال لحظات.

أغمض عينيَّ لإراحتهما، أشعر بأن قلبي السجين يقف أمام فرقة الإعدام منتظراً موته، أنتفض فزعاً، يداها ذات القبضتين الوحشيتين تعتصراني بقوة، وددت البكاء نعم! البكاء لما أنا فيه من تمزق. لعنت اليوم الذي عملت فيه حارساً للمقبرة، رن صوتها وسط شعوري بالضعف والوحدة:

– لأول مرة في حياتي أشاهد عريساً غير سعيد بزواجه؟

رفعتني بعيداً عنها، لتقول:

– لماذا خطبتني؟

أختنق صوتها بداخلها، راحت شفتاها ترتجفان بشدة، عيناها السوداوان الوحشيتان تهطلان دموعاً مخضبة بالكحل، أحسست بأنني كطائر البوم وحيد إلاّ من: مشاهداتي، تعطلت حواسي داهمتني قشعريرة برد كمن سكب عليه ماء بارد في شتاء قارص، أخذت بيدها، أجلستها فوق أحد القبور قائلاً:

– اجلسي! سيكون لك ما تشائين.

كانت مصرة على البكاء، لتذكرني بأيامي الماضية التي أنفقتها في مراقبة عوائل الموتى وهم يبكون موتاهم، ألبث مضطرباً لبعض الوقت لأسألها بعدما لوَّعني بكائها:

– علام تبكين؟

تدحرج صوتها بداخلها مندفعاً كصخرة سقطت من علٍ، قالت وهي تكفكف مطرها الأسود:

– وحيدة أبكي كل شيء في حياتي فحياتي بكاء في مأتم.

غريباً وسط الموتى أعيش، شعور باليأس شرع يقتات علي، يتآكلني تعب مزمن لما أشاهد من فواجع، قلت بقناعة:

– ابكي! فالدموع وحدها كفيلة بإراحتك.

ارتدى الليل ثوبه الجنائزي الأسود، اكتست القبور بظلام أب الحالك، نظرت ذاهلاً، مندهشاً من المرأة، طلبت علبة ثقاب، أعطيتها ما طلبت انبعث الضوء راجفاً بوهن بدد ظلمة أب، استطعت فيها مشاهدة وجهها المتغضن تعباً، هامت تزرع النيران في محاجر العيون، كأنها فلاح يوزع شتلات الرز في أرض منقوعة بالمياه، تضيء جميع الشموع داخل المحاجر، انتشر النور قادماً من عصور سحيقة، موحشة، ليملأ المكان برائحة الشمع والجماجم المحترقة قلت مستفهماً بقسوة:

– أسعيدة أنت بضوء الشموع؟

تقول بلهجة مستهزئة:

– قل لي بربك! عمرك كله شاهدت فيه عروساً حزينة يوم زفافها -يوم سعدها- اليوم الوحيد في حياتها الأكثر سعادة!

أغاظني كلامها، قلت لها:

– عن أي زفاف تتحدثين؟ وأين الزوج المزعوم؟ ومن سيرضى بك زوجة له؟ من..؟

إنها غيمة بدأت تهمي مطراً، اختلط صوت ضحكتها بصوت صرير الصراصر الحاد، قالت بعدما فرغت من ضحكتها المستهزئة:

– أنت من سيرضى بي!

خرقت بدبوس طويل حاد لسماعي كلماتها، قلت غاضباً:

– أمجنونة أنت… أمجنونة أنت…؟ تكلمي.

تجيب بهدوء:

– أجل! مجنونة.. مجنونة لأنني أقتات على السعادة كما العصافير التي تعيش سعيدة وهي تزقزق قبل التزاوج، مجنونة لأن في أعماقي تسكن امرأة… أنثى بانسدال ستائر الليل تتفجر بركاناً من الشهوة: فأعيش زفافاً كل ليلة… ينتهي بنشوة عامرة مع أحد العابرين. حينها أنام نوماً عميقاً… عميقاً جداً.

أذهل لكلماتها، أمتثل مرغماً لقسوة الحياة، الحزن يصر بداخلي، يكَّز بقوة ساحقاً بأسنانه القوية على مشاعري، جعلني أغامر قائلاً:

– سأحضر يوماً لنعيش زفافاً يبدد وحشتنا، نريق غربتنا ضحية للعرس. لكن! بدون جماجم وهياكل لأنها أمانة في عنقي.

فقالت بغير ما صبر:

– لماذا غير هذا اليوم؟ الآن سنحييّ عرسنا.

صرير الصراصر حاد وموجع، تقول ودموع الفرحة تترقرق من عينيها:

– سأنجب لك العديد من الأبناء.

وبخت نفسي لتهوري، قلت غير راضٍ عن اقتراحها:

– أتريدين أن تنجبي مجانين. تكلمي! أتريدين زيادة عدد مجانين العالم؟ أم تراك تنجبين مجانين من النوع السوبر؟ ها.. تكلمي..

وتقاطعني صارخة:

– كل الرجال متشابهون قساة القلوب، بلا مشاعر أتسمع يا رجل…

أما المجانين مختلفون، طيبون، ومشاعرهم نبيلة. لم أعان قط مثل هذا الإحساس الذي راح يمزقني بين شعوري بالعطف عليها، وبين محاولتي لملمة جنونها المتبعثر، واحتوائه، نشطت بداخلي مرارة الحياة، وبأنني معشوشب هنا في المقبرة، كأنني عشبٌ ضار يقتات وجعاً، يتلبسني الإنهاك كوني زمناً مضى، بل فكرة سرعان ما تناقضها حياة أرهقها الطوفان بين القبور حارساً للموتى. اكتشفت صورهم بتجمعهم في عرس المجنونة، قلت بعدما انحسرت كلماتي في أحد زوايا جسدي، انتشلتها متسائلاً:

– ما أسمك؟

كأنها مغامر يتسلق جبال حصاروست، لتقول:

– تاجية.

أثنيت إعجاباً باسمها، سألتها من جديد:

– ما هي قصتك؟

تحوم كخفاش، عيناها السوداوان أشبه بغرابين يبحثان عن غصن يحطان عليه، تقول بلغه: استكشافية لبواطن الأمور:

– لقد زوجني أهلي عنوة، وأنا بعد بنت في الرابعة عشرة من عمري، لشخص يدعي بأنه: تاجر! أنجبت له خمس بنات، باعهن زوجي لأحد بيوت الدعارة هه.. لقد كان: قواداً.

انتهكتني كلماتها، رحت أطوف صارخاً بغابة القبور الصماء، أصرخ محفزاً كل الموتى على -النهوض- من سباتهم الأزلي، تشاركني ((تاجية)) الصراخ والطواف بين القبور تبكي بناتها، حظها، وألمها الذي زعزع كياني، مزق يقيني بالحياة، أمسكتها من يدها مهدئاً، داهمني منظر الدموع السابحة في الكحل الأسود، قلت لها:

– اجلبي طبولك، دقي، اقرعي عليها إيقاعاً يوقظ الموتى، فهم أصدقاء اليوم.. دعي أصابعك تضاجع طبول الفرحة.

تهلل وجه ((تاجية)) وهي تقول:

– افرحوا يا أمواتنا وابتهجوا، فإن ((تاجية)) ستزف الليلة لعريسها.

تزغرد، تقرع طبولها، تراقصه نغماتها فوق جذع شجرة الكافور المنتصبة وحيدة وسط القبور، لتقول ثانية:

– أنذر نفسي لمن يساعدني في العثور على بناتي، ضحكت بحزن، صرخت طبولها

– أحب نفسها لمن يوقظ منسيي هذا العالم.

تستفيق عيون الفجر، تدعك عيونها بأياد من برد الصباح، يتثاءب الفجر ندياً، يطالعني وجهها مغرداً بالفرحة، يداها تعملان على قرع الطبول، أندفع محركاً الهياكل العظمية، والمحاجر بعيونها النارية تبارك عملنا، نوقظ الموتى، يرتفع صراخنا مختلطاً مع قرقعة العظام، وأزيز الشموع المحترقة، سكتت الصراصر، راحت نسمات عذارى تنعش أجسادنا المتعبة، قلت لها:

– أتعلمين أن البشر مقيدون حتى وهم في مثواهم الأخير. فكيف يبحثون عن بناتك…؟ دعينا نحررهم من قيودهم.. هـ..

تقاطعني متساءلة بغباء:

– نحرر من؟ الأحياء أم…

قاطعتها بلهجة رسمية:

– طبعاً الموتى!

**

عارية “تاجية” تستلقي، خيوط الفجر تغتسل بدموع الشموع طاردة كل أثر للنعاس، أيقنت بأنني من وضع الشمع الأحمر فوق بوابة الليلة الماضية، فسال الشمع الأحمر شوقاً في انحدار ظلفتي البوابة السحرية.

**

تسيد الفجر، أغمض عيون النار أجفانها، تراقصت، خشخشات ناعمة أصدرتها إغفاءاتها المتثائبة نشوة، فردت الحياة أجنحتها، راحت تنظف ريشها الزاهي بمناقير قدت من وهج الشمس، شرعت غربان المقبرة بالبحث عن غذائها، غراب أسود كبير بجناحين أبيضين عظيمين يحوم فوق “تاجية” المضطجعة على الأرض، مباعدة ساقيها ما وسعها، مغرية الغراب على النعيق، استفاقت مذعورة، تتلفت كمن داهمها لصوص سرقوا سعادتها منها، راحت تنشد منتحبة:

“شعندي وشخليت تنغك يا لغراب     تنذكر ما تنشاف خليت الأحباب”.

ازداد الغراب صلفاً، ينعق بعناد بينما ((تاجية)) ترتدي ملابسها، صرخت بهستريا مؤلمة:

– اغرب عني.. أجئت لتعلمني بنذير شؤم.. اغرب عني

غادرتها متجهاً إلى مهجعي كي ما أنام بعد تعب الليلة الفائتة، قلت وطعم اللذة المجنونة يقوّم أسناني النخرة:

– قولي للغراب: سكين وملح.

فغمزت “تاجية المجنونة” بعينيها الباسمتين، ولتصرخ بجنون:

– سكين وملح.. سكين وملح.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.