الشاعرة وفاء كمال الخشن / مهرجان المربد الثقافي‎ - YouTube

الإعلامية وفاء كمال الخشن والفنانة ماجدة الخطيب وجها لوجه (1)

كانت الفنانة ” ماجدة الخطيب ” متألقة بثوبها الأسود الطويل الذي أبرز تفاصيل جسدها وشعرها الكستنائي الذي كان يلمع ويتوهج مع أضواء الفندق المتلونة . كان الضوء الأخضر بعكس خطوطاُ متموجة خضراء كمنحنيات ربيع إقليدية على زنديها العاريين ووجهها الذي أوجزت بتزيينه بالمساحيق.


كانت تجلس على يد الأريكة في إحدى زوايا الفندق، وتصالب قدمها اليسرى مع اليمنى التي مدتها إلى الأمام لدرجة أنه يمكن أن يتعثر بها كل من يمر . وكانت تتحدث بصوت ذي نبرة مثيرة كأنها مخمورة .
اقتربت منها بعض الشيء وأنا أضع يدي على زر المسجل استعدادا . حيتني ببشاشة مبالغ بها وقالت :منذ قليل كنت أراقب حركتك ونشاطك . أتنبأ أن تكوني إعلامية ناجحة. لم أعقِّبْ على كلامها، وإنما ركزت اهتمامي على تسجيل حديثها لأنني كنت أريد أن أثبت جدارتي أمام رئيس التحرير .  فحاولت أن أدخل معها بالحوار مباشرة وسألتها :ـ أنت هنا لتصوير فيلم الانتفاضة أليس كذلك ؟ أجابتني بالحال حين شعرت أني ضغطت زر المسجل.
سأجيبك ولكن ” مش حاتكوني شريفة معايا لوسجلتِ حاجة من اللي بقوله دي الوقت ”
فاضطررتُ أن أغلق التسجيل نزولاً عند رغبتها، وأن أكون شريفة فعلاً، وأسكت عن الكلام المباح .
كانت تحدثني وتصمت بين عبارة وأخرى لاتريد أن تحرر فمها من تلال أحاديث  خرساء تراكمت فوقه
حاوَلَتْ التهرب من الحديث حول فيلم الانتفاضة وذلك بالتوجه نحو شقيقي الذي كان يصطحبني وكان يحمل كاميرا يابانية غالية الثمن، سألته:
– أنت مصور صحفي :
أجابها :
لا أنا طبيب أخصائي، وأنا مرافق لشقيقتي .قالت : طبيب عيون حضرتك؟ وضحكت ضحكة عالية أجابها شقيقي بصوته الشجي وأفهم كمان في رموش العين، ضحكا معاً وكأنهما يعرفان بعضهما من قبل. وأخذت  تتجاذب معه أطراف الحديث وكأنني لستُ موجودة ووعدتْه أن تنجز معي الحوار في فندق ” سفير معلولا ” بعيداً عن أجواء الميرديان الصاخبة .
في الحقيقة اصطحبت أخي يومها لأن الوقت متأخر وطريق العودة إلى منزلنا مرعب للغاية
كان محظور علي أنا وشقيقاتي البنات التأخر  عن المنزل. فالعودة  قبل غروب الشمس أمر مفروغ منه، لأنه شرط من شروط الاستمرار بالحياة في هذا الحي المرعب الذي كنا جميعاً نحلم بمغادرته للعودة إلى لبنان .
لكثرة التحرشات التي كنا نتعرض لها،  لذا كان يرافقني شقيقي في معظم اللقاءات المسائية .
يتبع ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كريم القاسم : توظيف المصطلح العلمي في القصيدة النثرية
دراسة نقدية في قصيدة ( السفر عبر المرايا ) للشاعرة .. وفاء كمال الخشن.

توظيف المصطلح العلمي في القصيدة النثرية
دراسة نقدية في قصيدة ( السفر عبر المرايا ) للشاعرة .. وفاء كمال الخشن

النص النثري يعطي مساحة اكبر وأفق أرحب لتصوير خلجات وارهاصات الذات ، وعلى الكاتب شاعراً كان ام ناثراً ان يستغل هذا الفضاء كي يفرز كل طاقته المشحونة ليوظفها خير توظيف ، حتى يكسب ثقة وذائقة المتلقي في إظهار بصمته التأليفية واسلوبه المتفرد .
بصمة الكاتب هي سِمة أساسية يجب ان يحافظ عليها ويطورها ، كي تصبح علامة فارقة تُميّزه عن غيره من الكتاب والمؤلفين ، وحتى قديما كان الشاعر او الناثر يُعرف ويُستدَلُ عليه من خلال أسلوبه وبصمته التأليفية .
الاديبة والصحفية السورية (وفاء كمال الخشن) تتميز بقدرتها على التأليف الجاذب للحس . وهي لا تكتب من اجل شهرة او منصة أو إعلان ، بل تحيل مشاعرها على الورق لتجعلها قراطيساً مقدسة لديها ـ وهذا هو طيفها وحقلها ـ وعندما يصل الكاتب لهذه القناعة فإن الحروف ستتعامل معه بصدق وستنهمر عليه كالغيث ليروي ارضاً عطشى ، ولذلك نجدها تفسّر حال تأليفها بأجمل صورة في احدى قصائدها …. فتقول :
” أنا نزيلة الورق ،
ولستُ نزيلة مثانة في مؤتمرات
تسحلُ عنفوان القصائد في المصاعد الكهربائية ،
وتتحول فيها القصيدة لماخورٍ ليليّ .
أنا إمرأة لا تبهرني اوسمة أو ألقاب .
لاتدفعني موجة …
ولايسحبني جزر .
أدخلُ من نافذة الحلم ،
أرقصُ مع غبار الطلع .
أرسمُ ضحكتي على ميسم زهر.
أوردتي أفنان لطيور القصائد .
وقلبي ينبض بالإنسانية دون مساجد . ”
لاشك ان تلك الحروف باتت كاشفة مضيئة ، فشاعرتنا لا تكتب من اجل صالونات شهرة لتكون نزيلة مثانة في المؤتمرات ، ولا تلهث وراء الاوسمة والالقاب ، انما تكتب وهي تحترم قدسية الحرف وتحترم حريته ليعيش في عالم المياسم والطيور ، وفي فضاءٍ رَحِبٍ مُثير . ولو إنها عشقتْ الألقاب لجاءت اليها ـ وانا اعرف ذلك جيدا بل وأجزم ـ لكنها ارادت ان تكون قلما ملتزما حالما حراً يكتب حين يغيب الاوكسجين ، وحين تختنق الطيور ، لتقدم لها عنصر الإنعاش .
(وفاء كمال الخشن) تكتب القصيدة النثرية بعفوية وانفعال ، وبنَولِ (صيدلانية ) ، مُستعمِلة مفردات ومصطلحات تستعيرها من عالم (الطب والدواء) لتنسج بها توليفة جميلة رائعة لا تشعرك بالوحشة أوالتشتت والنفور . هذا الفعل التأليفي ليس بمقدور الجميع على الإتيان به ، لذا فهي تضخ بهذه المصطلحات بلا هوادة في جميع ماتكتبه من ومضات او نثر او شعر ، وهي تعرف كيف توائمها مع المفردات العربية الاخرى مُشَكِّلةً صوراً شعرية بارعة ، حتى نكاد ان نصنفها ضمن مراتب الابداع ، وهذا مانهجتْ عليه اديبتنا ، فأصبح اسلوبا كتابيا وتأليفيا لديها .
سننطلق الى التأمل في نصٍ جسور واثق قافز كي نتفحص هذا الأسلوب التأليفي لديها :
القصيدة /
(السفر عبر المرايا) …. وفاء كمال الخشن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للسرطان المحتمل تحت الإبط ،
والذبحة الصدرية الواعدة .
للمرأة النازلة من مقصلة الحلم ,
والرجل الصاعد إلى متاهة الفاجعة .
للوحدةِ ..
للجملة العصبية المنهكة ،
ولتشريح جثة القلب .
للمرأة التي تبحث عن الضمانات ،
والرجل الواقف في جمجمة الموروث
يعانق حلمه بالرغبات .
للسوسيولوجيا وهي تحيطني بأنشوطة ” التابو”
و”السايكولوجيا” وهي تطلق جرذانها في جلدي .
للرجل الذي يحتضن قلبي بأصابعه الملونة .
أقف في دفء الرحم البدائي .
أنثر ماء المشيمة بيدي ،
وأحلم بجسدٍ يأويني إذا ما التجَأ الموت إلي .
واقفة في الطرقات .
آكل المجرات كالحلوى ،
وأستفيق على جرذان دمي .
أي حلم يرتادني الآن ،
وانا موزعة بين دفء السائل الأمنيوسي ،
وعربات الحر في المنفى ؟
لم يكن إنشطار الذرات فاصلاً ،
ولم يكن كبت الرغبات متسلسلاً .
كان اللقاء شهيداً .
وكان الجنون شاهداً والحرائق والهاجرة .
كنتُ الصلاة للغائب فيكَ .
يَمَّمْتُ هَمسي صوبكَ.
لم أكن دافئة في الشتاء ،
ولم أكن باردة في الصيف .
كنتُ ماثلةً في الغياب ،
والحضور النبي .
الحلم على الأبواب ، وأنا الغياب .
الإنشطار في الذرات ، وأنا تسلسل الرغبات.
الموت في الطرقات ،
وأنا الفيزيولوجيا الفائرة بالحياة ،
وجسدي وحده يعرف جيداً سر الطهارة والنقاء .
فلا تشدَّوا على يدي .
أنا المنفية في حدود حواسِّي .
وكل البدائل تافهة .
………………………
النصوص النثرية الحالية والتي تزدحم على موائد الادب ، مازالت متأرجحة بين السلب والايجاب ، وبين الرفض والقبول ، ورغم انتشار النصوص التي سُميت بالقصيدة النثرية وخاصة في الوطن العربي إلا اننا نادرا مانجد نصاً يثير فينا الدهشة والتي هي سِمة من سمات القصيدة ، بل ويجب على المؤلف ناثرا كان ام شاعرا أن يجعل هذه السمة ماثلة امامه ليفكر كيف يُبدع ويخترع توليفة تجذب المتلقي من خلال عنصر الاندهاش .
ولا نقصد بالدهشة هو حضور النسج الغريب واللفظ الوحشي ، إنما يكون النسج بعبارات ليست في الحسبان ، تُحدِث لحظة توقف لدى القاري ، ليجد امامه مفردات سهلة ذات معان واضحة ، فيتسائل : كيف نُسِجَتْ هذه المفردات حتى أصبحت عبارات جاذبة للذوق ؟؟
والآن لنتأمل نسج الشاعرة (وفاء كمال) في نصها الموسوم بـ (السفر عبر المرايا) :
ــ من العتبة الأولى وهو عنوان قصيدتها نستطلع مقدرة الشاعرة على تشكيل الصور الشعرية الهادفة … فـ (السفر عبر المرايا) هو ابتداء لرحلة تتخللها انعكاسات متتالية لمظاهرٍ وصور اختارتها الشاعرة كي تصف رحلة الانسان بانعكاسات مجتمعية ، جنينية واجتماعية وبيولوجية ونفسية مختلفة ، لتشكل صرخة هادفة تحمل رسائل جريئة بانعكاسات ضوئية تبهر الباصر ، وتوقظ النائم .
ــ ابتدأ النص بحرف الجر اللام ( لـ ) وقد كررته حوالي (8) مرات . وتكرار هذا الحرف بالذات هو لاثبات التخصيص لما بعده من معان والفاظ . فالشاعرة تأتي بالفاظ ومفردات لم يتعودها المتلقي أو اهل الشعر ، كونها تصب في معاني الامراض والمصطلحات الطبية والعلمية مثل (السرطان ، الذبحة الصدرية ، الجملة العصبية ، التشريح ، جثة القلب ، سوسيولوجيا ، التابو ، الرحم ، المشيمة ، السائل الامنيوسي ، انشطار الذرات ، الفيزيولوجيا) والمتمعن في هذه المفردات والمصطلحات يجد في نسجها وتوليفها شيئا من الغرابة ، كوننا لم نتعود عليه . إلا ان الكاتبة (وفاء كمال) استطاعت ان تُلفت الانتباه بقصيدة نسجتها بنولِ مُتطلع ومُبحِر في هذه المعلومات ، ولأنها درستْ علم الصيدلة ، فهي أستطاعتْ أن تعمل خلطة شعرية علمية أضافتْ للنص نوعا من الابداع والابتكار ، وهذا هو الذي نبحث عنه . لان القصيدة النثرية تتسم بفضائها الواسع الذي يستوعب الكثير من الأفكار والصور الشعرية على شرط ان لا تمس هيبة اللغة واشراقاتها .
ــ ثم ان ظاهرة تكرار حرف الجر(اللام) لم تكن عبثية ، بل أضافت نوعا من النغم الشعري للنص إضافة الى ماتَقدَمَ من عرض . وهذه النغمة المختفيه في أجزاء النص هي التي يجب على الشاعر النبيه ان يُهَيّجها بذكاء حتى وإن كان بعيداً عن الروي والقافية .
ــ هذا النص يحمل فكرة استعراض الآلام والمخاوف التي تنتاب المجتمع بشقّيهِ الرجولي والانثوي ، وهذا الاستعراض نجحتْ الكاتبة في تشكيله وعَرضه للمتلقي بنجاح فاق التصور …. فلنستعرض بعضه :
” للسرطان المُحتمَل تحتَ الأبط ،
والذبحة الصدرية الواعدة . ”
نلاحظ في هذا النسج كيف استعملت الشاعرة لفظة (المُحتمَل) مع (السرطان) ولفظة (الواعدة ) مع (الذبحة الصدرية) و(الواعدة) أي التي يُرتجى منها خيرا ، فاستعملتها الكاتبة للمداعبة والهزل حيث اضافت شيئا من المَزحة للنسج . وهذه الالفاظ يتناسب معناها مع هذه الامراض والمصطلحات .
ــ استطاعت الكاتبة ان توظف مصطلحات غريبة عن بيئة المفردة العربية وبآلية ذكية لتنتج نوعا من النغم الذي لايثير النشاز لدى سمع المتلقي ، رغم ان المصطلحات تحتاج الى رعاية ودقة في التوليفة فمثلا :
” للسوسيولوجيا وهي تحيطني بأنشوطة ” التابو”
و”السايكولوجيا” وهي تطلق جرذانها في جلدي . ”
حيث استطاعت أن تستغل وجود الحروف الأخيرة لمصطلحي (سوسيولوجيا ، سايكولوجيا) لتجعلهما متفاعلين موسيقيا منذ بدء القراءة وحتى اختيار لفظة (التابو) التي أحدثتْ شيئا من النغم ، فهي تحوي تناغما بين حرف الهمس (ت) وحروف الجهر (ا ، ب، و).
ـــ الشطران أعلاه اقتحما تماما محيط الاعتيادية النسجية ، حيث نتج عنهما نغمة يحسّها المتلقي ، وعزف داخلي يُغذي مفاصل النسج .
الشطران تَجمَّعَ فيهما ثلاثة مصطلحات ، وهي (سوسيولوجيا) وتعني العلم المرتبط بعلم الاجتماع حيث يهتم بدراسة قوانين تطور المجتمعات البشرية ضمن حقل تجريبي لمعرفة الظواهر المجتمعية . و مصطلح (التابو) الذي يُطلق على كل ما ترفضه المجتمعات الإنسانية ، والذي لا يحلُّ انتهاكه أو تعتبره خطا احمراً لايمكن تجاوزه ان كان سياسيا او دينيا او عقائديا بغض النظر عن سلامة الأفكار او خطئها . ثم مصطلح (السايكولوجيا) الذي لايبدو غريبا لكثرة تداوله في حياتنا اليومية ، كونه يخص علم النفس الذي يهتم بدراسة السلوك وكل الوظائف العقلية للانسان .
والمتأمل لهذا النسج المكثف المعنى سيجده قد اختصر على المتلقي كل الطرق والانتفاضات العقلية والثورات الداخلية ، ليخرج بحصيلة شطرين ، الأول (للسوسيولوجيا وهي تحيطني بأنشوطة ” التابو” ) وهو يمثل إنتفاضة على كل القيم المجتمعية والعادات والتقاليد التي يفرضها المجتمع والتي يعتبرها خطاً احمراً رغم سوادها ، لتشكل انشوطة وعقدة لايمكن انفكاكها بالرغم من الخطأ الجليّ والسوء الواضح الذي يهدم اركان المجتمع ، وهذا مانعاني منه حاليا في مجتمعاتنا العربية بكل جزئياتها وحيثياتها . والشطر الثاني (السايكولوجيا وهي تطلق جرذانها في جلدي .) فيه شيء من السخرية لهذه العلوم النفسية التي جعلت الشعب العربي فئران تجارب وحقل اختبارات .
ــ هذا الذي تقدم من تصوير رائع للرفض والانتفاضة على الخطوط الحمراء البائسة ، كانت الشاعرة قد عَضَدَتهُ مُقدَما بأشطر تحمل الايضاح وكأنها كبسولات دواء لتنشيط الافهام ، وتضع المتلقي امام صورة شعرية رائعة لا تخلو من مصطلحاتها الطبية والعلمية ، مثلا:
” للمرأة النازلة من مقصلةِ الحلمِ ،
والرجل الصاعد إلى متاهة الفاجعة ”
في هذين الشطرين نجد الشاعرة قد صنفت المجتمع بجنسيه وما يعتريهما من خلل وآلآم . والجميل انها جاءت بـ (مقابلة) رائعة في لفظتي ( المرأة ، الرجل ) ولفظتي (النازلة ، الصاعد) . والمقابلة تعني وجود معنى يقابل معنى آخر في الترتيب ، وتعتبر من المحسنات البديعية المعنوية والتي هي نوع من البلاغة التي تسند المعنى وتعطي إضافة بلاغية للجملة .
ثم جعلت (الوحدة) شطرا منفصلا ، وهذه المفردة وحدها كافية لتصف مقدار الوحشة المجتمعية والعزلة القاتلة :
” للوحدةِ …. ”
ــ بعدها تاتي بتصوير لمشاكل العصر وامراضه فتقول :
” للجملة العصبية المنهكة ,
ولتشريح جثة القلب . ”
ومعاني هذه الصور واضحة لاتحتاج الى قواميس لتفسيرها فهي لصيقة بنا وكأننا توائم ــ ومازالت شاعرتنا تقدم صوراً تجسد الآفات الاجتماعية التي تعصف بنا كما في التالي :
” للمرأة التي تبحث عن الضمانات .
والرجل الواقف في جمجمة الموروث ,
يعانق حلمه بالرغبات . ”
هنا أتتْ بطِباقٍ واضح في لفظتي (المرأة ، الرجل) وهو من المُحسنات البديعية كذلك لتنسج صورتين بليغتين رائعتين لحال المرأة والرجل ، وما تعانيه المرأة من اضطهاد وظلم بسبب مواريث باتت كالقيود ، وصورة الرجل الذي مازال على ثبات في استعمال الموروث البالي لأضطهاد نصفه الاخر تحقيقا لرغباته واحلامه الشخصية .
ــ بعد الخطاب الرائع تنعطف الشاعرة انعطافة جميلة جداً دون ان تشوش الفكرة او ان تجعل النص متصدعاً ، حيث بدأت خطابا ذاتيا رائعا كونها عنصرا انثويا تمثل هذا الجمع المُضطهَد لتُدخِل النص في صورٍ وجدانية جاذبة رغم توفر مناخات المصطلح العلمي ، فتنتفض في شطر جميل وتقول :
” للرجل الذي يحتضنُ قلبي بأصابعه الملونة .”
وتلون الأصابع في كف الرجل ليس من الصفات الممدوحة والجميلة ، فهي بوادر خيانة وخداع ومداهنه ، وهي كف نُزوح . ومن هنا تبدأ محطات انطلاقة انثوية لتصف حالها ، كونها نصف المجتمع وشريكة الرجل فيه ، فتنسج ابرع الصور التي لا تخلو من سمة توظيف المصطلح العلمي ، فتبدأ من بداية تشكيل النطفة وتحقيق فعل الولادة فتقول :
” أقف في دفء الرحم البدائي .
أنثر ماء المشيمة بيدي . ”
استخدام الشاعرة للـ (الرحم البدائي) لهو مجاز هائل رائع ، فهي عنوان الولادة وشجرة الحياة ، الا انها وليدة رحم مجتمعي خال من التطور والمعرفة يغزوه الجهل ويلتحف بالامية والحمق .
ثم تبدأ بالمعضلة التي ترهق كاهل الانثى في مجتمعنا ، وهو الخوف من القادم المجهول ، فما زال حلم الطمأنينة بعيد المنال عنها :
” وأحلم بجسدٍ يأويني إذا ما إلتجأ الموت إلي .”
ــ وتبدأ بوصف الحال الحالم مستعملة مجازات وتشبيهات رائعة سلسة وكأنها اقصوصة :
” واقفة في الطرقات ,
آكل المَجرّات كالحلوى , ”
لنتأمل الشطر الأخير وكيف شبَّهَتْ حالها حينما يتأمل الانسان السماء ليلا وهو يصارع الخوف والقلق ، حيث وصَفتْ اللقطة كاملة بثلاث كلمات لاغير وبأبلغ تكثيف ، فالمتأمل للسماء طولا وعرضا بنجومها وكواكبها كالذي يلتهم شيئا او يأكله ، واردفته بتشبيه رائع عندما جعلت المجرات كقطع الحلوى ، فصاغتها باجمل واروع صياغة (آكل المجرات كالحلوى) والعبارة تختزن معنى ضمنيا في تأمل السماء وتفسيرا عن العطش الى اليها لطلب الحلّ والنجاة .
ــ ويمر ذاك الشوط وكأنه حلم ، لتأتي لحظة الاستفاقة ، حتى تجد نفسها في حال آخر … فهي مازالت فأر تجارب بائسة :
” وأستفيق على جرذان دمي ”
واستخدام الشاعرة للفظة (استفيق) جاء في محله ، لان الاستفاقة تعني الصحوة والرجوع الى الحال السليم بعد الغياب الذهني ، وهذا دليل على عناية الشاعرة بنسجها . لذلك جاءت بعدها بتساؤل :
” أي حلم يرتادني الآن ،
وانا موزعة بين دفء السائل الأمنيوسي ،
وعربات الحر في المنفى ؟
واستعمالها لمفردة (يرتادني) في عبارة (أي حلم يرتادني الآن) دليل على ان هذا الحلم لم يكن غريبا عليها فهو كثير التردد عليها وهذا مايحمله معنى المفردة .
ــ الشاعرة مازالت تربط بين عالم الجنين وعالم الخارج لتصوير السفر المتعب والرحلة الشاقة المليئة بالضجيج والالم والمأساة ، فمازال التشتت والتشبث بين عالمين يشكل لديها صراعا ذاتيا كبيرا. وهذا التجاذب والصراع جسَّدتْ صورته باقوى تفاعل لغوي حداثوي فتقول :
” لم يكن إنشطار الذرات فاصلاً .
ولم يكن كبت الرغبات متسلسلاً .”
إذاً حتى الانشطار الذري لم يكن قويا بما يكفي للفصل . وحتى حبس الرغبات وماتشتهيه النفس لم يكن متسلسلا حسب مبدأ الحياة الطبيعي .
ــ وبودي ان اشير الى فائدة في هذه المحطة النقدية ، هي كيفية استغلال وتوظيف الشاعرة للمفردات التي تنتهي بحروف متشابهة في النطق لتجعل منها مقطعا فيه نغم وموسيقى من خلال عبارات مسجوعة مثل (الذرات ، الرغبات) و (فاصلا ، متسلسلا). حيث شكلت عبارات سلسة النطق سريعة التلقي .
ــ تحول نسج الشاعرة في الفكرة وفي النسج بشكل مفاجيء وسريع من معترك الحياة المجتمعية بكل تقاليدها وعاداتها وجدليتها لتنحو بالخطاب الى نسج يشبه الغزل لهو مهارة وحرفية رائعة ، حيث جاءتْ العصارة الجديدة محافظة على عناصر التصوير في النص ، مع المحافظة على سمة الابتكار وتواجد المصطلح العلمي دون ان تسجل علامة تشويش او ترددات صادمة وغير منسجمة او غير فاعلة . فتأتي بشطر متحرك فاعل نشط :
” كان اللقاء شهيداً . ”
واي لقاء هذا يا ست ( وفاء ) الذي كان شهيدا ؟؟
فالشطر الذي يليه كان شاهدا بكل عناصره :
” وكان الجنون شاهداً والحرائق والهاجرة .”
ثم تنسج أشطرا في غاية الروعة لهذه اللحظة ، سأتركها للقاريء يعيش في تجلياتها ، فهي واضحة الاشراق :
” كنتُ الصلاة للغائب فيك .
يممتُ هَمسي صوبك.
لم أكن دافئة في الشتاء .
ولم أكن باردة في الصيف .
كنتُ ماثلة في الغياب
والحضور النبي .
الحلم على الأبواب , وأنا الغياب .
الإنشطار في الذرات , وأنا تسلسل الرغبات.
الموت في الطرقات , ”
بعد هذا الكم الهائل من المشاعر والجيشان المؤثر ، تأتي بمصطلح (الفيزيولوجيا) وهو العلم الذي يهتم بدراسة الخلايا والأجهزة العضوية ، وكيفية التفاعلات الكيمياوية و والفيزياوية بينها ، وهو خير خلاصة لما تقدم ، كما في الشطر التالي :
” وأنا الفيزيولوجيا الفائرة بالحياة , ”
ونلاحظ هنا كيفية توليف لفظة (فائرة) وتعني الهيجان والغضب ، مع مصطلح (فيزيولوجيا) حيث تناسب المعنى تماما في وصف التفاعلات الذاتية وتصوير شدتها وهيجانها .
إضافة الى تقارب حرف الفاء (ف) في ابتداء اللفظتين (فيزيولوجيا ، فائرة) رفع حالة الثقل عن هذا المصطلح العلمي بل جعله منسابا كانسياب الماء ، سلسَ اللفظِ مطواعا بيد خبيرة لايقوى على عنادها .
ــ واجمل مافي النص كله تلك الانعطافة الكبيرة في مسك الختام ، لتجعل العالم يفهم الانثى … فتقول :
” وجسدي وحدهُ يعرف جيداً سر الطهارة والنقاء . ”
نعم … انها السر الكبير التي وحدها هي من تستطيع ان تُقدِّر كَيلَهُ وتعرف حَدّهُ ، لذلك قالت (جيداَ) … فغيرها (لا يجيد) التقدير والحسبان لهذا الامر الخطير . وهي ترفض حتى التشجيع والشدّ على يدها ، فكبريائها يرفض المسح على الاكتاف .
اذاً هي وحدها منبر العطاء ولاغيرها معطاء . فتقول بأجمل افصاح وأجلى بيان :
” فلاتشدّوا على يدي .
أنا المنفية في حدود حواسِّي .”
ــ ومازال الرفض والثورة وعدم التقبل لما يعكر صفوها هو صوتها الصارخ وهتافها المُدوي ، حتى ختمت زئيرها بأجمل شطر وابلغه :
” وكل البدائل تافهة . ”
يالها من عبارة ايتها الشاعرة الراقية ؟ ويا لهُ من نسج سلس سهل التناول بليغ الإفصاح .
عندما نمدح هذه العبارة ونثني عليها فإننا نبرز معالم القوة ومواطن الدقة في هذا الخطاب اللغوي القوي ، فاستعمال لفظة (تافهة) صفة لـ (كل البدائل) لهو خير وصف وخير انتقاء لهكذا لفظة ، وأظن بأن غير لفظة (تافهة) لاتوافق الوصف ، فهي تعني كل صفات الرداءة وعدم الجودة ممن لايحسن شيئا وليس له قيمة في الوجود .
ــ وبعد هدوء هذه الثورة الرمزية ـ وقد اضنها مازالت كالبركان تهدأ لتستجمع قواها للفوران والثورة مرة أخرى ومرات ـ لابد ان نضع تقييما مناسبا لهكذا نص طارت به الكاتبة (وفاء كمال الخشن) في أعالي فضاء الكلمة بجناحين نشطين ، وقلب دافق بالعنفوان والشباب .
• يعتبر هذا النص إبداعياً لإحتضانه عناصر ابتكار قد لا تخطر على بال الكثير بإستعمال مصطلحات علمية كثيرة في نصٍّ مُكثف ، ولم يسجل مقياس النقد أية إشارة ارتجاف أو علامة ضعف واختلال ، رغم ان المصطلحات ذات حروف متعددة والتي يصعب نسجها وموائمتها مع غيرها .
• النص اشراقة كبيرة في فضاء القصيدة النثرية والعبور على حجاب المستحيل ، فعندما يتفاعل القلم الموهوب مع الذائقة لابد ان يأتي بما لايخطر على البال .
• استطاعت الشاعرة ان تجسّد هتافا صارخا مدويا واضح المعاني بليغ الإيمائة قوي الحجة والبرهان.
• الشاعرة تتمتع بقوة حس نسجي ، حيث أبعدتْ الكثير من الحشو اللغوي الذي لافائدة منه لتجعل النص ينتفض بكامل حلته ، قوي النسج متين السبك .
• رغم ضخ مصطلحات علمية كثيرة في شرايين النص الا ان الشاعرة تمكنت وبحرفية عالية الجودة ان تحافظ على البناء الحيوي له دون ان تُحدِث في أًسُسِهِ خدوش او تصدعات ، بل زانته بديكور رائع يصعب على البعض اتقانه .
• النص جاء بمقدمة عنيفة وابتداء صادم يجعل المتلقي يعيش انفعالا ذاتيا من اول عَتبة . وهذا ابتداء ذكي نوصي به دائما لتوليد عنصر جذب وتشويق .
• استطاعت الشاعرة ان تستعرض الفكرة بترددات عالية الجودة ، مخاطبة العقل البشري دون المساس بالثوابت ، حيث احتوى المقطع على انتفاضة مكثفة البلاغة مشرقة البيان ، وبفصاحة سائغ استقبالها منقادة ومطواعة .
• احسنتْ الشاعرة في عرض الخاتمة واتقان صياغتها بفكرة عالية الجودة وبماركة مسجلة ، حيث استطاعتْ ان تنقل المتلقي الى عاصفة ختامية بأبلغ تصريح :
” وجسدي وحده يعرف جيداً سر الطهارة والنقاء .
فلا تشدَّوا على يدي .
أنا المنفية في حدود حواسِّي .
وكل البدائل تافهة . ”
• نقول لك ايتها الشاعرة الرائدة :
( بل نشدُّ على يدك ، فلستِ منفية في حدود الحواس مادامت كل البدائل تافهة )
دمتِ حرفاً جميلاً وقلما حداثوياً يعشق المغامرة .
احترامي الكبير …
……………………

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.