المخرج الإيطالي فيلليني خلال تصوير أحد أفلامه (الخدمة الإعلامية للمهرجان)
فيلليني يطل في مهرجان القاهرة احتفاء بمئويته ويذكّر بحب السينما
4 أفلام للمخرج الإيطالي الساحر الذي بنى عالماً يتجدد باستمرار
هوفيك حبشيان  
الأربعاء 9 ديسمبر 2020

واحدة من أجمل لحظات افتتاح الدورة الـ 42 من مهرجان القاهرة السينمائي تجسّدت في الشريط الذي عُرض على سبيل الاحتفاء بالمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني (1920 – 1993). الشريط الذي جمع مَشاهد من أفلام المعلّم سمّرنا إلى كراسينا، ذكّرنا لماذا نحب السينما، لماذا نحن هنا مجدداً في أسوأ الظروف الصحية، ولماذا يجب العودة إلى الصالات. فيلليني هو السينما في أبهى تجلياتها، والشريط الذي أعده المهرجان للاحتفاء بمئويته، مع الموسيقى التي صدحت عالياً في الخلفية، كان كفيلاً في جعلنا نعي كم الشاشة تفتقد لفنّان مثل فيلليني. إحساس عبّر عنه المخرج يسري نصرالله جيداً عندما قال بما معناه إن صاحب “ثمانية ونصف” هو حلم كلّ سينمائي وكابوسه في آن معاً، إذ يخاف تقليده، وهو في أي حال عصيّ عليهم.

أربعة أفلام تُعرض لفيلليني في القاهرة وهي مناسبة للعودة إلى مسيرة هذا العملاق الذي لم يتكرر في تاريخ السينما الإيطالية في العقود الثلاثة الأخيرة. 27 سنة مرت منذ رحيله المبكر نسبياً، ولا يزال حضوره المتوهج عالقاً في البال. فهو، على غرار هيتشكوك، يُعتبر المخرج الذي برز باعتباره “النجم الأوحد” في أفلامه، حدّ أن هذه النجومية ذهبت به أحياناً إلى سحب البساط من تحت أقدام ممثّليه، ليصبح بطل أفلام فيلليني هو فيلليني نفسه!

فلليني4.jpg

من فيلم “أماركورد” (الخدمة الإعلامية)

حياته المهنية بدأها فيلليني رساماً على الطلب وانتهى به الأمر في تلك المرحلة “كاريكاتيريست” لنجوم الأفلام في سينما فولغور في مسقطه ريميني، من تلك الكاريكاتيرات التي تُعلَّق عادةً في واجهات الصالات. هكذا كان احتكاكه الأول بالسينما. هناك شاهد كوميدياته الأولى، من باستر كيتون إلى لوريل وهاردي فالإخوة ماركس، وكل المجموعة التي كانت الفاشية تسمح بها لخلوها من الخطاب السياسي. كان والداه يريدانه محامياً، طبيباً أو كاهناً، لكن فيلليني حلم بالصحافة، متأثراً بصورة الصحافي في الأفلام الأميركية الذي كان يروق له أسلوبه الـ”مدفوشة إلى الخلف” في اعتمار القبّعة.

الساحر الحنون

فيلليني ساحر كثير الحنان، لكنه “ساحر كذّاب” أولاً، كما كان يحلو له التعريف عن نفسه. من خلال أفلام اقتربت من السيرة الذاتية، مباشرة ومواربة، منح الانطباع بأنه يستعيد ذكرياته، لكن كل ما فعله هو اختراع تلك الذكريات التي نسبها إلى عالم أوسع من ذلك الذي جاء منه. فالبقعة الجغرافية التي ولد فيها وترعرع (ريميني، الساحل الشرقي لإيطاليا، في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته) على ارتباطه العضوي بها وعشقه لها، لم تتسع له ولأحلامه. عبر جعلِ الذكريات المرتبطة بالعالم أجمع، ذكرياتِه هو، سكن العالم في أفلامه، حيث الحلم الذي لطالما شكّل مصدر الهام (مصدر الإلهام عنده عالم غنيّ في ذاته). وما أفلامه سوى تذكير مستمر بأن الحلم هو وطن الإنسان الأهم، يعيش فيه ريثما يتحقق. “طفولتي، آمالي، نوستالجيتي، أحلامي، كلها اخترعتها تقريباً، فقط لأنال متعة التمكن من روايتها”، اعترف فيلليني بلا حرج ذات مرة قبل رحيله. 

أحدٌ لم يستطع تحديد ذلك العالم الغرائبي الباروكي وتقليده الذي يُسمّى اليوم “عالم فيلليني”. السرّ ربما في رؤيته للأشياء تقوم على اعتبار الفنّ محاولة لاختراع النظام انطلاقاً من الفوضى، فوضى العالم والمشاعر. لكن حتى هذا النظام كان عند فيلليني، في لحظة انتقاله إلى الشاشة، هباء بهباء، وهماً بوهم… وفي هذا الأخير تحديداً وجد العش الدافئ لسينماه المترجحة دائماً بين الخيال والواقع، طمعاً ببلوغ حقيقة فيللينية ما.

من طفولته، لا يكشف فيلليني الكثير، مكتفياً بالقول إنه يعيد تركيب أجزاء منها متى يشاء، ولا شك في أنه كان جاداً حين أصرّ على أن الفيلليني الذي هو عليه ولد في الثانية والعشرين، وقبل ذلك لم “يكن شيئاً سوى حياة طويلة من الحضانة”. بلوغ العمر ذاك، كان مفصلاً بالنسبة إليه، ففيه التقى جولييتا ماسينا فاقترن بها طوال خمسين عاماً وإلى اليوم الأخير من حياته حين حمله المرض إلى سرير الموت في أحد مستشفيات أومبرتو. هي قبالة الكاميرا وهو خلفها، شكّلا واحداً من أشهر الـ”كوبلات” في السينما.

كان والدا فيلليني من البورجوازيين المثقفين واستطاعا أن يؤمّنا لابنهما يسر العيش بعيداً من حياة الشارع التي كانت تفضي في تلك المرحلة إلى كلّ أنواع الجنوح والتيه والخطايا. في سنوات اليفاع تلك، ثلاثة أشياء اقتحمت لاوعيه: الحياة العذبة في الريف، الكنيسة الكاثوليكية والفاشية. وتصديقاً لكلام فرنسوا تروفو “كلّ شيء يأتي من الطفولة”، فالتصدي واضح في عمله لبنيات اجتماعية جامدة كانت تطلب من الفتى الذي كانه آنذاك طاعة عمياء، وتنظّم حياته العملية والروحية وفق طقوس وأحكام مسبقة.

فاب.jpg

خلال تصوير فيلم “الحياة العذبة” (الخدمة الإعلامية)

هذا الذي كان يعتبر نفسه إنتاج لقاء بين ثقافة الحوض المتوسط والثقافة الغربية، روى للناقد الإيطالي جيوفاني غراتزيني فصلاً من صباه، حين كان لا يزال تلميذاً في مدرسة سان فنسان للراهبات: “لا يمكنني القول كمّ كان عمر الراهبة السمينة. أذكر فقط أنها كانت تحضنني، تعصرني، تحفّ جسدها بي، تفوح منها رائحة قشارات البطاطا، نتانة مرق الخضر، وذاك الطيب النموذجي الذي تحمله ملابس الراهبات. ذات يوم، فيما كانت تحتضنني قوياً جداً مثل بينوكيو صغير في جسدها القوي والحار، شعرتُ برغبة، بدغدغة في طرف الأنف لم أستطع تفسيرها، بيد أنها كانت عنيفة حتى كاد يغمى عليّ. أعتقد أنها كانت إثارتي الجنسية الأولى، لأنني ما برحتُ إلى اليوم أملك قليلاً من الضعف حيال رائحة قشارات البطاطا”.

أشكال متكورة

أغلب الظن أن شهيته للأشكال النسائية المكوّرة التي نصادفها (أهي فعلاً مصادفة؟) في كلّ أفلامه، متأتية من هذه المداعبة الأولى التي ظلت تلازمه طوال حياته. أما سبب إيثاره أنواع البشر المضحكين فناشئ من كونه كان يلتقيهم لدى جدته خلال أيام العطل المدرسية، وصاروا في ما بعد أشكاله المفضّلة إلى حين تحوّلهم كائنات “فيللينية” تطل برأسها، سواء دعت الحاجة إليها أم لا. فيلليني ذو الشخصية الصلبة والمندفعة، كان واحداً من الذين عرفوا كيف يوظفون مخيلتهم الطافحة لنقل بيئة كاملة إلى الشاشة، مستنبطاً التضادات التي يقوم عليها المجتمع. أجادَ كما لا أحد من قبله تضخيم الأشكال والأفعال، وهذا أيضاً نجده في امتدادات طفولته، في زمن لقائه الأول بالسيرك الذي أشبع لاحقاً جوهر أحلامه. شعر فيديريكو الصغير بصدى مثير، نبوئي وحدسي، حين وضع قدميه للمرة الأولى في الجوف العملاق، النابض، الرطب والهادئ، لخيمة سيرك “بيارينو”. شعر كما لو أنه في بيته في ذاك الفراغ المسحور.

فيلليني من الأوائل الذين تطرقوا إلى فيلم السيرة (وإن مفتعلاً أو تكاذباً) مع “فيتيللوني” (1953) الذي وضع فيه كلّ ما كان سيصنع روحيته في السنوات اللاحقة: مقاربة مملوءة بالحنين إلى ماض يتسرب بين الأصابع فيما الحاضر يبقى ماثلاً في ذكرياته المرة/ العذبة، اصطدام البيئة بالسلطة الحاكمة، إلخ.. صوّر فيلليني مجموعات شبابية تمضي وقتها في فعل لا شيء.

طوال حياته، كره فيلليني السياسة وما يرتبط بها. عندما سأله جيوفاني غراتزيني “كيف في مقدورك النأي عن السياسة والاهتمام بها؟”، كان رده صريحاً: “لستُ فرداً سياسياً، ولم أكن يوماً. السياسة والرياضة تسببان لي حالة من الفتور واللامبالاة. الأصدقاء، المجتمع الراهن، الفقر الأخلاقي، من المفترض أن يحرضوني على تبني مواقف إيديولوجية حاسمة. لكن، عندما يعني ذلك الدعوة إلى الفعل، النشاط العملي، الانضمام إلى التجمعات والمشاركة في المناقشات والمسيرات والمجابهات وإصدار البيانات، فإن الانخراط في ذلك العالم المنظّم والمنضبط، بما يحتويه من مجادلات ومناظرات واجتماعات، يعيدني ثانية إلى المنطقة المحايدة. ربما هو فعل طفولي غير مسؤول، لكنني مع ذلك أحتفي بهروبي من الخطر عن طريق الاستغراق الكلي في الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي: تحقيق الأفلام”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.