اُرسم كما ترى.. لكنك ستتحمل العواقب
محمد عبدالهادي يلجأ الكثير من الفنانين المصريين إلى النكتة كوسيلة آمنة لاستمرار مزاولة عملهم، تحاشيًا للاصطدام بحالة الطوارئ التي تم فرضها لمدة ثلاثة أشهر، في أعقاب تفجير كنيستي مار جرجس بطنطا وسط الدلتا والكنيسة المرقسية بالإسكندرية، مبتعدين عن الكارتون السياسي الذي يهدف إلى النقد اللاذع، وليس الإمتاع والإضحاك.

تتيح حالة الطوارئ مراقبة الرسائل أيًّا كان نوعها والصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكل وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها، وضبطها ومصادرتها وإغلاق أماكن طباعتها متى أخلت بقانون حالة الطوارئ.
سلاح الترميز

ويخشى رسامو الكاريكاتير امتداد حالة الطوارئ إليهم، بعد أن عانوا منها في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك لمدة 30 عامًا، شهدت خلالها التحقيق مع بعضهم أمام النيابة العامة بتهم تراوحت بين إهانة رئيس الجمهورية وتكدير السلم العام.

الفنان عمرو سليم، رسام الكاريكاتير بجريدة “المصري اليوم” الخاصة، قال إن الكثير من رسوماته عرضته لمشكلات في عهد الرئيس مبارك، وتم التحقيق معه بتهمة إهانة الرئيس عام 2010 على خلفية رسم كاريكاتيري تناول علاج مبارك من مرض المرارة بألمانيا، إذ اتهمه أحد المحامين المنتمين إلى الحزب الوطني الحاكم آنذاك بإهانة الرئيس بعدما تساءل في رسمه عن سبب إصابة مبارك بهذا المرض رغم أنه لم يعان من “المرارة” التي يعيشها المصريون في حياتهم.

في العام ذاته، واجه سليم أزمة بسبب رسم عن تزوير الانتخابات البرلمانية حتى أن زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية رفع نسخة من جريدة “المصري اليوم” في البرلمان واتهمه بإهانة النواب واضطر رئيس التحرير، مجدي الجلاد وقتها، إلى الانتقال إلى البرلمان لتوضيح مفهوم الرسم، وخصصت الجريدة ملفّا لشرح الكاريكاتير وكيفية تناوله وطبيعته الساخرة لاحتواء الأزمة.

يقول سليم لـ”العرب”، إن رسوماته أوقعته أيضًا في أزمة في عهد الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي، حيث تقدم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين بثمانية بلاغات، منها ما تعلّق بازدراء الأديان، وهي تهمة تعبر عن الفرق بين نظامي مبارك ومرسي، فالأول عامل الرسام على أنه معارض والثاني اعتبره كافرًا.

يضيف الرسام أن المشكلة التي تواجه الرسام في حالة الطوارئ أو غيرها وجود بعض الأشخاص من المقربين يسعون لإرضاء النظام ويحاولون إسكات من يهاجمونه، حتى لو كان النظام ذاته متقبلاً للنقد، والمبدأ بالنسبة إلى رسام الكاريكاتير “ارسم كما ترى.. لكنك ستتحمل العواقب أيضًا”.

الكاريكاتير في عرف “الرسامين” سلاح خطير تخشى تأثيرَه الحكوماتُ، إذ يمكن اللجوء إليه لحشد الجماهير، فالزعيم البريطاني الراحل تشرشل لجأ إلى الرسامين لرفع حالة الروح المعنوية للجنود، وهتلر أعدم الكثير من فناني الكاريكاتير الفرنسيين بعد احتلال ألمانيا لفرنسا، وتعهد بإعدام الرسام السوفيتي كوكر ينسكي حال احتلاله موسكو.

يقول الرسام الكاريكاتيري أحمد كامل إن الترميز يمثل أهمّ سلاح للرسامين في مصر للتحايل على حالة الطوارئ أو مواجهة أي تضييق قد يتعرضون له، وبالتالي يظل الرسام ممتلكًا لحلول تمكنه من تمرير فكرته والالتفاف على القيود والتضييق، والتعاطي مع سقف الحرية المتاح.

الكاريكاتير يصنف تصنيفا مزدوجا؛ فهو فن تشكيلي وفي الوقت ذاته مقال صحافي تحريضي ذو تأثير واسع
وأوضح كامل، لـ”العرب”، أن أحد أهم الحلول التي يلجأ إليها الرسامون هو النكتة التي استخدمها الشعب المصري منذ الأزل للنقد والسخرية السياسية أو الاجتماعية، وما زال الرسامون في مصر يعتمدون عليها للمزج بين السخرية المريرة ونقد الأوضاع، أو تغليف الفكرة السياسية بطابع كوميدي.

يصنف الكاريكاتير تصنيفًا مزدوجا، فهو فن تشكيلي وفي الوقت ذاته مقال صحافي تحريضي ذو تأثير واسع لأن فكرته أسرع في الوصول إلى المتلقي، وأسهل في الفهم، كما أنه لغة عالمية يمكن فهمها بعيدًا عن اختلاف اللغات.

يشير كامل إلى أن السياسة التحريرية بالنسبة إلى الرسام قد تكون أحيانًا مشكلة أصعب من حالة الطوارئ، فالسؤال المعتاد الذي يسأله أي رسام حال التحاقه بأي صحيفة يتعلق غالبا بسقف الحرية المسموح به، فإذا كانت حكومية يميل غالبا إلى النكتة أو السخرية المجتمعية، وإذا كانت معارضة ينفتح أمامه مجال عريض للنقد.
فن قديم

اضطر كامل إلى مغادرة إحدى الصحف بسبب رسم لأحمد نظيف رئيس الحكومة المصرية قبل ثورة يناير، إبان الأزمة المالية العالمية عندما رسمه يرتدي زيّا رسميّا

فاخرًا في الجزء الأعلى وملابس داخلية فقط بالأسفل، وقامت إدارة التحرير باقتصاص الجزء السفلي من الرسم ما أفقده معناه وهدفه. كان الكاريكاتير معروفاً عند المصريين القدماء الذين جسدوا أوضاعا معكوسة في الحياة، كقط بري يرعى الإوز، وأسد يلاعب حمارًا، وانتعش بالمعنى المعاصر على يد يعقوب صنوّع، مؤسس فن المسرح في مصر الذي أنشأ صحفًا ساخرة كان يغير اسمها باستمرار لمواجهة الغلق من السلطة، أشهرها “أبونضارة” و”أبوصفارة”. وفقا لما نشر بصحيفة العرب اللندنية.

يقول عبدالرحمن أبوبكر، رسام الكاريكاتير بمؤسسة أخبار اليوم القومية، إن الرسامين يتلونون للتحايل على التضييق، وعندما يشتد عليهم الخناق يلجأون إلى النقد الاجتماعي مع لمسة سياسية مستترة لا تظهر إلا بالتركيز ومحاولة ربط خيوط الرسم مع بعضها البعض.

وتم إلقاء القبض على رسام الكاريكاتير إسلام جاويش في مكتبه والتحقيق معه في فبراير 2016، ونفت السلطات وقتها أن يكون القبض عليه لأسباب تتعلق بعمله الفني، بل بسبب إدارة موقع خاص دون ترخيص، وتم الإفراج عنه بعدها بأيام عقب حملة حقوقية ربطت بين رسوماته والقبض عليه.

ويلفت أبوبكر، إلى أن الرسالة التي يريد إيصالها يمكن أن تظهر عبر بعض الأساليب الملتوية، كأن يرسم النكتة مع إعطاء سمات للرسم كتآكل ملابس الشخصيات التي تضمها للدلالة على الفقر، أو إظهار المسؤول الحكومي ببطن ممتلئة، والمواطن كهيكل عظمي للدلالة على غياب العدالة الاجتماعية.

وسهلت التكنولوجيا الحديثة عمل رسام الكاريكاتير؛ إذ أصبح يعتمد على جهاز متصل بقلم ليزر وبرنامج لتعديل الصور، عوضا عن فرشاته وأفلامه، ما أهله أكثر لضبط الألوان، واللحاق بأي حدث، وإمكانية النشر الفوري على مواقع التواصل الاجتماعي.

وأكد أبوبكر أن مواقع التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا” فتحت مجالاً خصبًا أمام الرسامين لنشر أعمالهم المرفوضة من قبل الجريدة، بسبب سياستها التحريرية أو الرسومات التي يعرفون أنها ستوقعهم في أزمة، والتي كثيرًا ما تجذب إعجاب رواد مواقع التواصل ويتم تداولها بينهم بصورة أكبر بكثير من عدد قراء الصحيفة الورقية.

يعتبر فن الكاريكاتير سلاحا أساسيا للتغيير وكشف الأخطاء والعيوب، ويخشاه الكثير من السياسيين أكثر من الكلمة، بعضهم يعتبره دبوسا وخزه مزعج لكن ألمه يمكن تقبله، والبعض الآخر يصفه بصدمة كهربائية تتباين درجة تحملها وفقا لقوة تيارها، وعلى رسام الكاريكاتير أن يعرف كيف يختار كمية تيار النقد الذي يوجهه، ويتوقع الوخز الناجم عن رسمته.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.