«ضهر صفرا» الضيعة التي تأخذ مكانها على مرتفعٍ قبالة البحر شمال طرطوس بقليل، تُحيط بها الجبال والأودية وبساتين الزيتون والليمون من كل جهاتها. ضهر صفرا التي تعني بلغة الأم للسوريين – الآرامية «جبل الصباح» كانت شاهدة على ولادة المبدع السوري جورج عشي بتكونه «متنوعاً» تنوع الطبيعة من حوله، بأصالة فينيقية لا ريب فيها.
جورج عشي متعدد مسارب الإبداع، وكأنه يُريد أن يُقدم مختلف الإبداعات دفعة واحدة، ولذلك هو لم يوغل في إبداع واحد ويستغرق فيه زمناً طويلاً خشية أن يأخذه بالكامل، ومن ثمّ يغبن إبداعات أخرى تهفو نفسه إليها. إبداعات جورج عشي؛ كانت مؤخراً مدار ملتقى التشكيل الشهري الذي تُقيمه مديرية ثقافة دمشق، حيث خوّض المنتدون في بساتين إبداع عشي من تصوير ضوئي، وتشكيلي، ثم كتابته الشعر المحكي والكثير من نصوص الأغاني، إلى العزف على آلة الكمان.
«ياما رحنا ومشينا وفرحنا وبكينا
حتى على قلوب الناس انحفرت أسامينا
كل ما يمرق يوم نقول يا حبي انتهينا..
أتاري لاء لاء يا حبيبي لاء لسا ما ابتدينا..»
مثل هذه الأغنية التي سمعناها بصوت عشرات المطربين، يُعدد للعشي الشاعر والإعلامي عماد الدين إبراهيم ما يُقارب من الألف أغنية لحن بعضها كبار الموسيقيين والملحنين في العالم العربي منهم سيد مكاوي، وغنى من كلماته أهم المطربين، وهذا ما يفرح له إبراهيم، ويحزن أيضاً، لأن كتابته للأغنية أخذته من فنٍّ جميل لم يعطه حقه كما يليق به، وهو الشعر المحكي، لأن للنص الغنائي في رأيه قالباً معروفاً ومحدوداً يحدُّ من حرية الكاتب في الإيغال والتعبير بحرية عن الحالة الشعورية.من هنا كان اكتفاؤه بإصدار مجموعتين في وقت متقارب من الشعر المحكي منذ نصف قرن «كلمتين صغار 1963، والجوع والحب 1970» أشعار تأخذ نسغها من مفردات الطبيعة: الليل، والغيم والضباب والريح والصباح.. كلها تحضر بقوة في نص جورج عشي، وفي عناوين النصوص وثناياها مُشكّلاً قاموسه الشعري بمفردات سهلة مفهومة تصل إلى القارئ بكل يسر، كلغة الحياة اليومية ومثلها صوره كسمات تُميّز الشعر المحكي، وهو في كل ذلك جورج عشي الشاعر الذي لا ينفصل عن جورج عشي المصوّر والرسام، فمفردات اللوحة والريشة حاضرة في نصوصه، وهو يكتب بعين المصوّر والرسام المهتم بكل التفاصيل، كما يُصوّر بعين الشاعر الباحث دائماً عن المتفرد والمتميز مؤرخاً للحالة واللحظة الشعوريتين في نصه الغنائي وفي نصه المصوّر ولوحته المرسومة، يفعل كل ذلك في وحدته مع همومه وأفكاره وخيالاته التي تأخذه بعيداً:
«قديش صعبة تعيش لوحدك
إنسان متلي وما حدا حدّك
كيف ما التفت بتلمحو للهم وبتسألو: يا هم شو بدك»؟
في تأمله للوحة جورج عشي؛ يكتشف النحات والناقد غازي عانا كم يُشبه هذا الفنان لوحته، ببساطته وصراحته، وبتنوّع أعماله وهامش الحرية التي يتمتع بها من حيث تداخل الصياغات فيها وتناغم ألوانها، وذلك بشهادة الضوء الذي يُحيلنا إلى علاقة اللوحة بالموسيقا من خلال توافق إيقاعات كل من اللون والضوء مع ما تبقى من الشكل الذي استقرّ هنا، أو ظلّ عالقاً هناك في أعلى الكادر.
تلك الأعمال التي احتلّ التشخيص فيها مساحة كبيرة في تجربة هذا الفنان، وكان البورتريه عنوان أول معرض قدمه في صالة الشعب للفنون في دمشق، ومازال إلى اليوم من الموضوعات التي تشغله لخصوصيتها بالنسبة إليه، وما يعنيه في أمر التشخيص؛ يجده عانا في لباس هؤلاء الأشخاص وهيئاتهم التي تُعيده إلى أزمنة اتسمت بالحب وبالعلاقات الحميمية التي تحولت اليوم إلى أمانٍ. حيث يعتمدُ في هذا النوع من الأعمال على الواقع، وما بقي في الذاكرة من هيئة الأشخاص، يستحضرها الفنان بعد أن يُحمّلها مشاعره لتبدو حقيقية أكثر من الحقيقة رغم هامش التجريب، وصراحة التعبير والصدق الذي يفيض من هذه الوجوه. وتبقى ألوانه في موضوع التشخيص أكثر انطباعية، يعكس أحياناً بعضها مزاج الفنان في تلك اللحظة من الرسم أو التعبير التي تظهر اتفاقاً ضمنياً لتناقض بعضها من صراحة اللون ونظافته الذي نشعر باستقراره على سطح اللوحة من غير مزج أحياناً، بينما في المنظر على الأغلب يسود التفاهم فيه أكثر من حيث تنقلات تلك الألوان التي تختلف فيها حدة التجاور بمساهمة من الضوء الذي يتسلل خلسةً إلى بعض مناطق اللوحة، وطبيعة اللقطة ولحظتها ومن ثم حرصه على رومانسية المشهد المُختار بعناية:
ونختم ببعض من قراءة المصوّر الفوتوغرافي أنطون مزاوي الذي وجد في تنوع اهتمامات جورج عشي الفنية تأكيده على دور الفن المهم بشتى أجناسه من الصورة التعبيرية مروراً بالواقعية، وصولاً إلى التوثيقية التي أضيفت إليها أبعاد جمالية وإبداعية، فلم تكن تجربة عشي مجرد توثيق أو تسجيل، بل تعدّته إلى إضفاء روح الفنان ومعاييره الفنية، وكان توقف مزاوي عند ثلاثة أعمال بورتريه فوتوغرافي: البائع الأعمى التي نالت جائزة عالمية، وماسح الأحذية اللوحة الفائقة الدلالة، وصورة بورتريه التقطها عشي لوالدته التي تُعد من أهم روائعه، صورة خرجت من فكر هذا الفنان وعاطفته، ومن هنا فسر كل هذه المثالية التي تكتنفها. ولاسيما بأسلوبه في استغلال وتوظيف عناصر الظل لخلق حوار بصري يكاد يُعيد تشكيل المشهد بصيغ بصرية جديدة، وهذا ما تجلى في لوحات الأسود والأبيض لدمشق القديمة التي كانت له معها حكاية جمال خاصة.