
حقيقة الأمر أنني لا أنوي الخوض في معطيات الحجج التاريخية، ولكن في أساسيات النقد الفكري والثقافي لسلوك صلاح الدين الأيوبي، وذلك على أساس المحاور التالية:
أولاً: أختلف شكلاً وموضوعاً مع المعيار الأخلاقي المستخدم في هذه المعركة الفكرية، فالسياسة عمل جماعي تتضاءل معه قيمة المنظومة الأخلاقية الفردية، وهو ما دفع البعض لاعتبار أن الأخلاق ليست ضمن السياسة أو Amoral، بمعنى أنه لا دور للأخلاقيات كمعيار للحكم على الساسة، خصوصاً أن السياسة معيارها النهائي هو «المصلحة مترجمة في القوة»، كما وصفها مؤسس علم العلاقات الدولية «مورجنثاو». وبالتالي، فاستيلاء صلاح الدين على الحكم في مصر لم يكن في الواقع السياسي خيانةً للسلطان، أو للخلافة الفاطمية المنهارة، فهو عمل قوة لأي سياسي يسعى للسلطة، فلو كانت الديمقراطية هي الوسيلة الشرعية الأولى للوصول للحكم اليوم، فإن هذا لا ينطبق على ظروف صلاح الدين آنذاك، فنحن أمام حقبة تاريخية كانت الثقافة السياسية السائدة هي القوة، أو حتى بناء جيوش من العبيد لنيلها أو الحفاظ عليها، فالمنطقة ساد فيها قانون توازنات القوى، أو البقاء للأقوى، كما أن إخضاع مصر للخلافة العباسية المستضعفة آنذاك بالتأكيد لم يكن أفضل من واقعها تحت حكم صلاح الدين، وهذه حقيقة تشهد لها الدولة الطولونية والإخشيدية في مصر قبل ذلك.
ثانياً: إن التركيز على كون صلاح الدين الأيوبي كردياً يعد خروجاً كاملاً عن سياق الثقافة السياسية للتاريخ، فمفهوم القومية لم يكن موجوداً للقياس عليه آنذاك، فلقد حكم مفهوم «الأممية» هذه الفترة وليس القومية، فبطاقة الشرعية للحكم كانت الهوية الدينية الإسلامية السنية، ولا مجال للقياس على تاريخنا بالمفاهيم السائدة اليوم، فعصر القومية جاء في أوروبا في القرن الثامن عشر، وفي مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونحن أمام معركة فكرية في القرن الثاني عشر لا يجوز استخدام مفاهيم القرن الحادي والعشرين، وليس أدل على ذلك من أن غريم صلاح الدين، الملك ريتشارد قلب الأسد، نفسه كان فرنسي الثقافة والهوية، وأمه فرنسية، بينما كان ملكاً لإنجلترا.
ثالثاً: من الثابت تاريخياً أن صلاح الدين حرق المكتبة، وعقد العزم على القضاء على الخلافة الفاطمية، ومعها التشيع في مصر، منتصراً لمذهبه السني، فأغلق الأزهر الشريف، ووضع «قراقوش» على حكم مصر – وهو بالمناسبة ليس شخصية سيئة كما هو في الإرث الشعبي اليوم. وهذه حقائق لا خلاف عليها، ولكن على تفسيراتها، فاقتلاع التشيع من مصر كان بالنسبة له ضرورة سياسية وحتمية ثقافية متسقة مع عهده. ألم يفعل الفاطميون الشيء نفسه في مصر، باقتلاع المذهب السني لها ولأقباطها، مع تحويلهم أغلبية منهم للمذهب الشيعي قسراً؟ وكتب التاريخ تؤكد هذا، فأغلبية الأقباط تحولوا للإسلام الشيعي، الإسماعيلي آنذاك، تحت الضغوط القسرية، خصوصاً لخليفة مثل الحاكم بأمر الله. وبالتالي، فالضرورة الثقافية والسياسية لشرعية الحكم، كما رآها صلاح الدين في زمنه، لا يمكن القياس عليها من خلال مفاهيمنا الزمنية اليوم.
واليوم، بعد ثمانمائة وثلاثين عاماً على ذكرى انتصار «حطين» المجيد، فإننا ندخل في معركة فكرية مستفزة لا أرى جدوى منها إلا خلخلة مفاهيم ثقافية وسياسية لدي المواطن العربي البسيط، فنحن لسنا ضد نقد التاريخ وصُناعه، ولكننا ضد الاستدلال الخاطئ المعتمد على الثوابت الثقافية السائدة اليوم، فنحن لا بد أن نحترم ما يمكن أن أسميه «الحاكمية الزمنية» واجبة التطبيق على التاريخ وأهله، فالتشكيك في الموروثات التاريخية على أساس زمننا غالباً ما يدفع الشعوب للانتفاض على تاريخها وموروثاتها الثقافية، من ثم فنحن أمام معركة يائسة في حرب عابثة.