عارف الريس.. لاعب الأشكال ومحطم الأشكال وشاب الفن الأبدي

س. ت.

عارف الريسعارف الريس واحد من أعمدة الفن اللبناني الحديث. إنه قطب آخر يسقط بعد بول غيراغوسيان ورفيق شرف وشفيق عبود، يصح القول أن جيل المؤسسين على وشك أن يتوارى وأن حملة نار الحداثة الأولى ينطفئون واحداً بعد آخر. بيد أن لعارف الريس مقعده بين هؤلاء، فهو في جيله حركة دائمة ودينامية خالصة، ولربما لا نستطيع أن نصف فن عارف الريس بأفضل من ديناميته، بأفضل من تخطيه المستمر لنفسه وتحطيمه المستمر لأشكاله. فعارف الريس لاعب أشكال بقدر ما هو محطم أشكال. انه من زمرة الفنانين التي لا ترسم لوحة واحدة ولا تعيد اللوحة نفسها، هكذا قفز عارف الريس وهو من أكثر جيله ثقافة وحساسية بالعصر ومتابعة للجديد. قفز من أسلوب إلى أسلوب على نحو كان أحيانا يخطف الأنفاس. بين الرسم والنحت كسر الحدود. لكنه كسر الحدود أيضا بين التعبيرية والتكعيبية والفريسك المكسيكي والتجريد الأميركي والكولاج. في كل آونة من فن الريس كان يعاود الابتداء، يرجع إلى الصفر ويبدو لكثيرين هاوياً يعمل، ذلك كان يجعل فنه في حال من عدم اكتمال لكن في حال من طراوة ونقاوة متواصلتين، ظل عارف الريس لذلك شاباً في حيله وفتى لا يكبر في الفن، ظل لديه في الجعبة دائماً لعبة جديدة. والأرجح أن أوائل لذلك اتصلت بأواخره اتصالا وثيقاً، وان سيرته في الفن لم تكن فقط توليداً وتجديداً لا يهدآن بل كانت أيضا ورشة فنية متكاملة، لا حصر للاقتراحات التي حملها فن عارف الريس ولم يكن لشخص واحد أن يقوم بكل ذلك، كان في فنه مشغل لحقبة فنية كاملة، لذا يبدو فن الريس بروقاً خاطفة وبدايات دائمة ومبادرات لم تستنفد.

ليس فن عارف الريس وحده هو ما يفتقده أصدقاؤه، سيفتقد الجميع فضلاً عن ذلك ثقافة عريضة وقيافة رائعة وخلقاً رفيعاً وقدرة على الصداقة لا نظير لها، سيفتقد أصدقاؤه مثلا نادراً على تطابق الفن والحياة وقدرة اللعب والارتجال والابتكار على أن تجد لها إنساناً ونموذجاً.
تحية لعارف الريس الذي رحيله بقدر حضوره إثبات وإيجاب ومباركة للحياة، فنانون وأصدقاء شاركوا في هذه التحية.

نقولا النمار: رفيق المشوار الطويل

ليس أصعب من حالة خسارة احد المحبين والرفقاء، يتلعثم اللسان ويصيب القلم النشاف.
لقد فوجئت برحيل الصديق الرفيق الزميل عارف الريس، وقد يكون رحل إلى عالم أفضل وأجمل من عالمنا، هذا المحب الذي عرفته عندما كنت مقيما في باريس لإكمال دراستي الفنية في (البوزار)، وكان ذلك في أوائل الخمسينيات، وكان آتيا من أفريقيا ليقيم معرضا هيأ له إعلاميا بواسطة الجريدة الأسبوعية الباريسية ART ET SPECTACLE بصورة لأحد أعماله في الصفحة الأولى ولم أكن سمعت باسم عارف الريس قبل ذلك، فقصدني، تعارفنا وطلب مني مرافقته إلى الفندق حيث يقيم للاطلاع على اللوحات التي ينوي عرضها، وبعد رؤية عدد كبير من المجموعة بكل تأن وتأمل أُعجبت بوسيع تخيلات محتواها، وقلت لعارف تعال نذهب إلى احد مقاهي الحي اللاتيني ونتحدث مطولا عن مشروعك. وهكذا كان. وفي المقهى سألته (هل تتقبل صراحتي بإبداء الرأي، قال (بكل سرور)، فحدثته مطولا عن الحركات الحديثة والعديدة الاتجاهات حينذاك في باريس، وان أعماله قد تلاقي إعجابا كبيرا في بيروت إنما من الصعب جدا أن تجد قاعة عرض تستقبل مجموعة، لأنها لا تتلائم مع التيارات المسيطرة على الأجواء الباريسية، وبعدئذ تواعدنا أن نلتقي قريبا. ولم أعد اسمع أي خبر من مدة شهرين أو أكثر، إلى أن عاد وأتاني مجددا وقال لي انه كان مستاء من كلامي له، واخبرني بان طرق باب عدد من قاعات العرض وكانت النصيحة بتغيير نمط أسلوبه…
ومن هذا الواقع نشأت علاقة ثقة ومحبة استمرت كل الأوقات، وكان المشوار الطويل بالعمل سوية في محترفي في باريس، والدراسة في المتاحف الباريسية، والمشاركة في السراء والضراء في كل النشاطات التي قمنا بها معا خدمة للفن والفنانين وداعا أي الصديق المحب الأمين).

الياس زيات: التشكيلي المفكر

عرفت عارف الريس في ستينيات القرن الماضي هنا في دمشق عن طريق المرحوم الفنان الأستاذ محمود حماد وزوجته السيدة درية فاخوري حماد وكانا تزاملا معه أثناء الدراسة في إيطاليا.
كان يتردد علينا في تلك الفترة ويجتمع بأصدقائه وهم كثر أذكر من التشكيليين المرحوم فاتح المدرس والمرحوم لؤي كيالي ومن الأدباء السيدة كوليت خوري.
كان عارف يطلب مني ومن درية فاخوري حماد أن نرافقه إلى دير السيدة في صيدنايا، فقد نذرته والدته طفلا إلى السيدة اثر مرض شارف فيه على الموت فشفي منه، وهناك كان يركع في مقام السيدة وتنهمر الدموع من عينيه، وفي طريق العودة من سيدنايا كان يتوقف ليتأمل أبدان شجر الجوز ويتلمسها بيديه.
كنا نستطيب عشرته وقد أحب أصدقاءه بسريرة طيبة. عارف الريس تشكيلي ومفكر، مارس فنون التصوير الزيتي والنحت والرسم التوضيحي، وكان له فيها كلها لمسة متميزة، انتقل بين الواقعية التعبيرية والرمزية وحتى التجريد بمعنى أنه كان يستخدم كلاً من هذه الاتجاهات كما يشاء حسب اللحظة الفكرية التي يبغي التعبير عنها، فقد كان يعرف كيف يسخّر فنه لأفكاره وهو روحاني الطوية تقدمي بفكره السياسي. ودليلي على ذلك لوحتان رئيسيتان كانتا في معرضه الذي أقامه في متحف دمشق في سبعينيات القرن الماضي، الأولى مهداة إلى الوزراء والثانية إلى ذكرى (تشي غيفارا).
كان عارف الريس معتزا بفنه، ويدافع عن أفكاره وانتمائه القومي بمحبة لا تعرف الحدود، ويُعتبر علما من أعلام الفن في الوطن العربي في العصر الذي عاشه، يستقبلنا في محترفه في عاليه بكرم الضيافة وطيب الحديث ودعاباته المعهودة.
رحمك الله أيها الإنسان العارف وأسكنك ما تستحقه من مكان نيّر وراحة سرمدية. (دمشق)

حسن جوني: خصوبة اللون

قلقاً في حياته كما في المراحل الفنية التي خاض فيها رسماً وتلويناً ونحتاً، رسومه ذات الخطوط المتوترة المتكسرة المشدودة على أشخاص لوحاته، كأنها إطار كثيف وعنيف. تجريدياً في لوحة، ثم تشخيصياً في ثانية، ثم مقاربا مزايا الكريكاتور في الثالثة، وفي كل أعماله واختلافاتها خصب لوني بدائي.
لعلها ابرز الخصائص التقنية، في فنه تلك التي ذكرتها وربما أرادها هو هكذا، ألواناً تخرج من الأنبوب إلى اللوحة، وأحيانا تتداخل في ما بينها لتخدم عنصراً في لوحته، مع مساحات سوداء غالبا ما كانت بارزة أكثر من سواها، ولا سيما تلك التي رسم بها عارف الريس موضوعات الصورة المستحيلة، أو ما ظن انه قاربها في رسومه التحريضية السوداء.
تعبيرية عارف الريس ظلت هاجسه الأساسي طوال حياته الفنية الطويلة، تعبيرية هي بين تشخيص الإنسان كما هو في الواقع أو كما هو في (مرئيات) الفنان الخاصة، بين (نولدة) و(سيكيروس)
و(ريفيرا) وما يدور أمام عينيه وفي وجدانه من رغبة في هدم (الأحجام) وإعادة بناء الكتلة، شأن كل رسام يرسم ويلون وينحت.
ذاخر… ومعطاء… وجد في الفن سبباً لاستمرارية حياته وتأكد الآن من أن أحلام الفنان، ككل بركان بعد تأججه، يتحول إلى شظايا رمادية.

جميل ملاعب: لوحته امتداد لجسده

لأول مرة ادخل إلى بيت عارف الريس من دون أن يفاجئني بطلعته، هذا الأخ الذي رافقنا منذ أربعين سنة، طلاباً وأصدقاء وزملاء.
لن استطيع أن أتخيل انه يمكن أن يرحل بهذه السرعة عنا. عارف الريس فنان تشكيلي له بصماته القوية على الفن اللبناني والعربي. بدأ مغامرته فناناً انقلابياً متمرداً منذ وجوده في المدرسة الابتدائية، وبعدها في أسفاره إلى أفريقيا وفرنسا والمكسيك، كان دائما في حالة صراع مع المرئي.
أعماله كانت غير عادية. كان شخصية تريد أن تخاطب بالفن المشاكل الصعبة في الحياة والسياسة، وفي اللغة التشكيلية.
عارف الريس مناضل في كل مراحل حياته، خصوصا في بداية الستينيات، ثم مع بداية تأسيس دار الأدب والفن، وفي جمعية الفنانيين اللبنانيين، وفي السنوات الأخيرة من خلال تنظيمه لسيمبوزيوم عاليه… دائما كان عنده تطلعات غير عادية. كان يحاول من هذا الواقع المرئي الموجود في الوطن أن يضيف إليه أفكارا عالمية، بتجدد ومن دون تقوقع.
أهم ما في شخصيته كإنسان انه صريح، يتمرد على باطنيته دوماً، يصنع الضحكة حتى في أحرج الظروف. ما كان يقيم للموت أي معنى سوى المعنى الطبيعي. لم يتهيب له، وظل يرسم حتى آخر ساعة من حياته. البارحة خاطبني بالتلفون، كلمني عن مشاريع يحتاج تطبيقها إلى سنوات. كان يؤمن أن الموت شأن طبيعي. كان يحاول أن يدخله في عمله وخطوطه وألوانه. كانت اللوحة امتداداً لجسده، امتداداً جميلاً ومعبّراً وفريداً وعفوياً. كانت له مغامرات أيضا في المادة، في الألوان المائية والزيتية والحجر والخشب والحديد.

جسّد في أعماله أفكارا طليعية، وما ساوم أبداً على تألق رؤيته التجديدية المستمرة.
عارف الريس يبقى محطة وركيزة للفن اللبناني والعربي.

محمود شاهين: عصيان الألوان

رحيل الفنان خسارة لا تعوّض، فكيف إذا كان هذا الفنان مسكونا بالفن من رأسه حتى أخمص قدميه… يعيشه وينتجه ويرصد شغبه وتحولاته، ويشتغل على كافة ثقافاته وأجناسه وضروبه. يجرب ويبحث، يذهب طولا وعرضا في نسيج الحياة الدائم التحول والنمو، ليستل منه تكوينا فراغيا مشخصا أو مجردا أو حروفيا، بهذه المادة، أو تلك الخامة.. أو يقوم برشق ألوانه فوق سطح اللوحة، تمتمات تختزل الحياة، أو لمسات تتوضع في جسد حرف أو كلمة، أو مفردة زخرفية هندسية ونباتية، أو يبني بالصور الضوئية، حشدا هائلا من التداعيات المتفجر من نهر الحزن الساكن داخله…
كيف إذا كانت الخسارة، فنانا رائدا، لم يتوقف يوما عن العطاء والبحث والتجريب، في بنية الخط واللون والكتلة. في الفن المسطح، والفن المجسم. في الحفر والملصق والرسم التوضيحي. كيف إذا كانت الخسارة هي عارف الريس الذي مات وهو يرى (الموت في كل الأمكنة، والجريمة موجودة في الهواء والمحيط) ويرى (العالم المتحضر يحارب الإرهاب وهو صانعه)؟!

في آخر حواراته، قال عارف الريس: (كثيرا ما أعلنت الألوان العصيان. أنا الآن أعيش مرحلة جفاف وهروب اللون مني. أحيانا ألجأ إلى الكتابة والكولاج، وأكتب الأيام الرمادية، والليل الطويل، وهذا تعبير عن مأزق أعانيه… أحن إلى والدي الذي رحل وأعيش في وحشة قاتلة).

في أيامه الأخيرة، أعلنت الألوان عصيانها عليه… هربت منه… وها هي الحياة تهرب منه الآن… إيذانا بنهاية مشوار ريشة وقلم وإزميل، طالما حاولت تجميلها وتقديم أسباب دائمة من أجل أن تعاش… كيف لا والفنان هو الباحث الأبدي عن لحظة الحياة المتألقة، وتجميدها في سحبة خط، أو تمتمات لون، أو كتلة تغازل الفراغ… لحظة تأتي في سياق الحياة، ومن أجل الحياة، لتذكرنا دوما بهؤلاء الرواد المهرة، الباحثين أبدا ودائما، عن الشواطئ الجديدة.

عارف الريس.. غادر (قبوه) أخيرا… ما عادت تهرب الألوان منه.. ولا تأتي إليه… لكنه ترك ما سيبقى يشير إليه، ويدل على الفعل الخلاق، الجميل، والمبدع، الذي أضافه للحياة، مكرسا وجهها المشرق، وسحرها المفهم، وسعاداتها الحقيقية التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقيين… وعارف الريس.. كان واحدا منهم، بكل تأكيد…

(دمشق)

شوقي شمعون: شلال فن

كنت على موعد مع عارف الريس لإقامة معرض استعادي له في الجامعة اللبنانية الأميركية هذه السنة، وكان قد أرسل لي جميع منشوراته منذ أسبوعين ولا تزال مكدسة على طاولتي، وقد اخترت منها أحد أعماله ونبذة صغيرة عن حياته، لتعلق في بهو مبنى الفنون الجميلة بصورة دائمة أسوة ببقية الفنانين اللبنانيين المؤسسين والمحدثين. ولا نزال مصرين على إقامة المعرض عندما تسنح الظروف.
شدني إلى عارف الريس منذ كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية إنسانيته وصدق تجربته الفنية. تعبيريّ بامتياز، أعماله تعكس تجاربه في الزمان والمكان، مثقف وتجريبي، من زهور الربيع إلى زهور شارع المتنبي، مرورا بكل التأثيرات الغربية والأفريقية والشرقية.
قلما التقيته لا يخربش شيئا، أحببتَ أم لا ما همّ. ضحكته ستبقى ساخرة من كل شيء. سيمفونية صاخبة تذكرنا دائما بهذا الشلال الهادر بالوطنية والحب والفن الكبير.

فاطمة الحاج: الوجه الدائم الحضور

(شارع المتنبي) (زهور) باستيل في السبعينيات… مراحل فنية هادئة كانت بمثابة هدوئه قبل اندلاع ضحكاته. فكما تزين ضحكته قصره، كذلك خطه الأسود يجمع بين داخل المساحة اللونية وخارجها. وكما همه السياسي الإنساني كان دائم الحضور كذلك الوجه.
ولا هم أن كان هذا الوجه يحتل حيزا كبيرا في طرف اللوحة، أم وجوها صغيرة منتشرة. وسواء لوجه عارف الريس أن كان مستترا وراء شكل هندسي أو قناع أفريقي أو ما شابه، فانه يأتي ليعبر إلى الضفة الأبعد، حيث لا حاجة لخط يفصل الوجه عن حاله.

عادل قديح: فريد في مقاربة الثقافة التشكيلية

فلنعترف… عندما يرحل العمالقة إنهم لا يستكينون. بل يبقى إرثهم شامخا. هكذا سيفعل عارف الريس بعد رحيله. سيبقى، كما كان في حياته، واقفا حائلا في وجه تحييد الثقافة العربية عن أصالتها وعمقها التراثي.
رحل بجسده، لكنه ترك طريقته الفريدة في مقاربة الثقافة التشكيلية. فهو أبو جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت وابنها في الوقت نفسه، حيث كان رئيسا لها في أواخر السبعينيات وعضوا فاعلا في هيئتها الإدارية والعامة. وهو الأستاذ المتمرد في معهد الفنون الجميلة، والأب الروحي لسيمبوزيوم عاليه. والفنان المناضل بمعالجته التشكيلية كما في حركته الإنسانية في سبيل الثقافة والإنسان والعمل السياسي. بل انه اكبر من ذلك كله، انه الفنان المشاكس الذي قارب الرمزية عندما ازدادت أشكالا، وحاكى التجريدية الحروفية عندما نهض النضال القومي العربي فساهم برفع شعار التمايز الحضاري والثقافي المستند إلى استلهام التراث العربي المتمثل بالخط العربي. وهو الذي وثّق برمزية جسورة اثر الحرب اللبنانية على تعبيره التشكيلي. والذي تبدت جرأته النادرة في تجليات معالجاته اللونية بترميزها الصارخ من دون أن يلتفت إلى الصراخ الذي يثنيه أو الجلبة التي تحاول أن تجعله يتراجع. كأنه من سلالة الوحشيين ولكن بخصوصية أكدت على تماهيات التعبير مع الحركة والرمز، كأنما النوستالجيا الدفينة إلى فعل انتصار وتوق إلى انعتاق هي التي دفعته نحو تشكيل مساحاته وألوانه وخطوطه وعناصره. ولكننا لن يمكننا أبدا أن ننكر عليه حلمه الرومانسي ولا استكانته إلى الطبيعة وهو ابنها بامتياز. لذلك كان يعود دائما إلى حضن عاليه وحضن لبنان ليبشر بنيو انطباعية كادت تغيب عن البال، تستنكر بتجلياتها التصويرية ما يلوكه بعض الطارئين على تشكيل اللبناني المعاصر.
عارف الريس عملاق هوى جسده وشمخ فعله، فهنيئا له وللبنان ما فعل وما ترك.

أحمد معلاّ: قوس الألوان

انتباه يتجدد، ونوم جديد. بعضنا يغفو، وبعضنا ينتبه. انتباهنا وإغفاؤنا سر ديمومة الذات في الكل.

يالغفلتنا، يسرق أبناؤنا من أحضاننا، وفي ظننا أننا ما نزال نغمرهم بحناننا. عرفناهم، حاورناهم، وتصادينا معهم، بل ورعيناهم وكرمناهم. أبناؤنا، إخوتنا. صورتنا ومجد حضورنا العابر. وسنحتفل بهم كما نحتفل بعيد الأم. زيف يتبهرج لا يلبث أن يذوي أمام القضاء عندما تطالب أم بأبنائها من طليقها.

عارف غياب جديد: أصبحنا مصممي أسرّة الراحة الأبدية.

هل نفتقدك ونفتقدهم أولئك الذين نسير معهم ونحن نرفع رؤوسنا لأننا خبرناهم؟ كلا. كل ظني أن المرارة تجيء من الإحساس بإضاعتهم، وليس من فقدهم، فالغياب قدرنا جميعاً. ولأننا أتينا فسنرحل. لكن اللحظة تكشف خيبة غفلتنا عن نمو أصابعهم في دواخلنا وذاكراتنا.
ممدوح عدوان منذ أيام، وأنطون مقدسي منذ ساعات، وها عارف…
يغادر جيلان سوية، ونحن في ذهول بحارة المركب الضائع بين أمواج التردد بين التراث والحداثة. بين ثورة الإبداع وتملق السياسة. بين السلفية المتوحشة والانفلات من أية قيمة. بين النمو والعيش والحياة.

من يعرف عارف الريس؟
ليس من بين العربان فقط، بل ومن بين فنانيهم وكليات فنونهم العربية أيضاً! من يعرف قيمة لبصره وبصيرته؟ ليس من بين الذواقة فقط، بل ومن بين النقاد أيضاً! من هي الجهة التي تسعى لتوثيق ذاكرة ضميرنا من خلال تخطيطاته ورسومه؟ أجامعة الدول العربية أم جامعات الدول العربية أم جوامعها أم جامعو ثرواتها أم جموع بائسيها؟
دعك إنها نعوتنا جميعاً، نحن جحافل يقودنا الهوس المخادع كما يقود الموج انعكاس صورة.
مغادرة عارف بصمت، إعلان قديم يتجدد باسمه، فما ينطبق عليه ينطبق على مبدعينا جميعاً، وما من جدوى! قتلى نحن، نتلهى بطوائفنا وقبائلنا وأحزابنا، غافلون عن معنى وجودنا وقيمة مرورنا في كف الحياة.
أما آن لنا نحن الذين نشيع من بين ظهرانينا الأكفأ والعلم، أن نعيد النظر
فيما نحن فيه من قلة الوفاء لأنفسنا ولطيننا؟

ما بنا؟!
متنا بموتك يا عارف، وانتبهنا، ماذا بعد…
مغلوبون على أمورنا، تفصلنا صلوات تتباين بتلمظ مفرداتها، وتبعدنا التجاءات مكابرة إلى عناصر الجغرافيا المتنوعة، وتفسدنا لهجات تتنافس صواب الرؤية.
نحن نغادر معك، مع مماثليك من المبدعين، نمرر عيوننا بحزن على أشباهنا الفلسطينيين والعراقيين، يقودنا كالسيل فيض من الدولارات يحملنا على بساط من الوهم وينقلنا من يوم إلى آخر.

لماذا رسمت، ولونت؟
لماذا ترحلت وشاركت؟
لماذا أضعت وقتك في مراقبة الأفق الآتي، الأفق المبارح؟
لماذا توددت غموض التصوير؟
كنت منا، ورحلت عنا.
لم تغادر سوانا، لأننا تشوقنا إلى صياغاتك المبتكرة على الدوام.
مهزوم مثلنا.
نم قرير القلب، فالجمع سيغادر بعد قليل هذه البقعة الصغيرة من الأرض.
ربما يعود قلة منهم إليها على ورق الجرائد، وآخرون في بعض تصاويرهم. وسننساك كما نسينا الكثير من أحبتنا.
ليس كما في مقبرة مونبارناس، حيث تتجدد كل يوم جورية حمراء على ضريح بودلير. وليس كما في النشاط الثقافي الحضاري الذي لطالما تمنيته حديقة لوجداننا.
أعرف أنك عارف. عارف.
والجمع مشغول ب(الإنتخابات)، والجمع مشغول بالسلام والحرب، والجمع مشغول بجوع اليوم وسهرة الأمس، وطول فستان الغناء.
ثمة غيوم تغادر البحر كل يوم، تمتطي حصان لبنان، تربت على روحك وهي تدير ظهورها لانشغالاتنا البائسة.
وداعاً عارف، ستشع أقواس الألوان من ذكراك في آنية العارفين مثلك. آمل ذلك. (دمشق)

مارون الحكيم: أستاذ مشاكس

عاش عارف الريس مناضلاً مغامراً مفتشاً في الحياة وفي الفن. لم يأسر نفسه يوماً في فكر متحجر أو في أيديولوجيات مسمّرة. ولم يحدّ طريقه الفنية في أسلوب ثابت يعرف به، بل كانت كل حياته مزيج من الضياع في متاهات الدنيا والثورة على أشيائها البائدة ونواقصها الفاقعة.
انه فنان عصامي متعدد في إنتاجه التشكيلي وغزير العطاءات في اتجاهات متنوعة. عالج أفكارا ومواضيع متنوعة تخص تفاصيل البؤس والتخلف والركود والثورة في عالمنا العربي. لقد عكس فنه حال القلق والتوتر وضجيج الذات المجنونة. مارسه بإدمان المؤمن العاشق فصار الفن لديه العلة والدواء في آن.
لقد عرف جيلنا عارف الريس أستاذا مشاكساً ثائراً على الأسس الأكاديمية الصارمة، وصديقاً خبيراً عجنه الدهر من النواحي الإيديولوجية والفنية والخبرة الحياتية.
ساهم في تأسيس معهد الفنون الجميلة، وناضل في جمعية الفنانين مع زملاء له من جيله ومن أجيال الشباب اللاحقة، وكان له دور تشجيعي في تأسيس نقابة الفنانين التشكيليين. كما ساهم في إنشاء سمبوزيوم عاليه للنحت مع زملاء له في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت حتى صارت عاليه مدينة للنحت العالمي.
بموته نكون قد خسرنا احد المداميك الأساسية للحركة التشكيلية اللبنانية. عل الوطن ينصفه مع مبدعين آخرين حتى لا يضيع الجهد والإبداع وكي لا يتلاشى الفن في أقبية النسيان. نأمل إقامة متحف للفنون التشكيلية في لبنان حتى ولو كان النداء صوتاً بلا صدى.

محمد شرف: التنقل الحر بين التيارات

ذهب عارف الريس مستعجلا، ملحا، قبل أن تداهمه صروف الدهر وتعقد يده عن الحركة أو عينيه عن الرؤية الواضحة، وذهب أيضا متمهلا، إذ كان عليه أن يكمل الإجابة على أسئلة كثيرة، متناقضة، فرضتها مراحل وجودية وظروف سياسية وإنسانية عاشها الوطن ومحيطه خلال عقود تقاطع فيها السياسي والأيديولوجي والثقافي، على نحو مركب ومعقد.
وإذا كان على المهتمين باليومي السياسي أن يعيدوا تصفح كتب الايدولوجيا، وان يعيدوا صوغ الفكر بناء على أسس ومعطيات متغيرة ومتبدلة سعيا وراء موضوعية (مشغولة)، مخافة الوقوع في براثن ذاتية خاضعة لقوانين الرقابة والمحاسبة، فان مهمة الفنان التشكيلي كانت تسير على أسس مختلفة. فالهم التشكيلي الذي شاء عارف الريس أن يكون سبيله إلى رؤية ما يحيط به، لا بد أن يكون قبل كل شيء ذاتيا، وان يكون، في بعض الأحيان، على نقيض من المنطق العقلي الواضح، وان يتقارب معه ويلازمه في أحيان أخرى. هذا النهج، أو الأسلوب، في التعامل مع مسألة التشكيل لا بد له أن يقودنا إلى طرح مسألة الحرية، التي شكلت في ذاتها موضوعا قابلا لمختلف ضروب النقاش والتأويلات، وأدت إلى انقسامات حادة في صفوف الحركة التشكيلية منذ ما يقرب من قرن زمني أو أكثر.
يقول ادوار لحود في كتابه عن الفن اللبناني المعاصر وفي الصفحات المخصصة بعارف الريس: (لا نعرف ما يمكن قوله عن هذا الفنان، انه عبارة عن كتلة متفجرة في كل الاتجاهات. إن فنه ذو علاقة بالمزاج، باللحظة، وبغريزته. وهو عبارة عن تمزق داخلي لا يمكنه أن يتجسد إلا بسلسلة من التناقضات التي لا تنتهي). إن ما يلحظه ادوار لحود هو، بلا شك، على قدر كبير من الصحة، ويمكن على أساسه فهم، أو تفهم، التنقل المستمر لعارف الريس بين مختلف التيارات الفنية التي حفل بها القرن العشرون، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لتطور ذهني وثقافي غير مسبوق فرضته ظروف الحياة الحديثة. وإذا كان ظهور تلك التيارات وتبلورها قد تطلب مراحل تحضيرية وسياقا زمنيا محددا، أو غير محدد، فإننا نشعر وكأن عارف الريس قد شاء تكثيف تلك المنطلقات التشكيلية، المتباعدة أو المتقاربة، وحصرها في زمن واحد، وهو الزمن الذي عاشه وبدأه في معرضه الفردي الأول في الجامعة الأميركية عام 1948 لينهيه بكتاب سماه (الأيام الرمادية) صدر عام 2003.
لا يصلح كتاب الأيام الرمادية لتلخيص مسيرة عارف الريس، ولم يرمِ الفنان إلى هذا الهدف، كما أن الرمادي لا يعتبره الكثيرون لونا، في حين أن مسيرة الفنان التشكيلية لم توفر الألوان، فقد رآها منبسطة، حالمة، في طفولته وراقبها وهي مكثفة، صاخبة وراقصة، خلال تواجده في أفريقيا. وربما كانت أفريقيا هي الموقع الذي حاول فيه الفنان التوليف بين حركة الجسد وحركة اللون، من دون أن تكون النتيجة مجرد عملية استنساخ للرسم الأفريقي الفطري، الذي يحمل في ذاته مقومات عفوية قد يؤدي التعاطي المباشر معها إلى فخ التقليد. لقد أراد الفنان التعامل أكثر مع البعد الروحي لتلك الانطباعات التي تركتها في نفسه بلاد لم تمتد يد المدينة بعد إلى الكثير من أرجائها، فبدت في عينيه بلادا (نظيفة)، وربما كانت هذه (النظافة) سببا دفع الكثيرين إلى تكثيف اللون وتسطيحه كي يكون بسيطا ومعبرا في آن. لم ينج عارف الريس من عفوية أفريقيا وبعض مظاهرها البدائية، إذ ستشكل هذه المرحلة رافدا سيصب دون شك في نهر مسيرته الفنية.
كما أن الإقامة في أوروبا ورحلته إلى أميركا لم يكن من شأنهما إلا إضافات جديدة إلى البعد الإنساني الذي سيكون له مكانة خاصة في أعماله، والذي سيتعزز باهتمامات فلسفية، وبطفرة من المأساوية التي ولدتها الحرب الأهلية اللبنانية لاحقا وتجسدت في أعمال غرافيكية لم يقلل اللون الواحد المونوكرومي من شحنتها الشعورية، لا بل أضفى عليها زخما خاصا.
هذا الهم الإنساني الذي يقع في صلب الهم التشكيلي لدى عارف الريس، وهو هم مدموغ بخاتم الحرية، سنراه في مجمل نتاجه واضحا للعيان في أعماله التشخيصية أو مستترا وراء غلاف التجريد أو السوريالية، وما كتابه الأخير سوى رحلة بين اللون والحرف والصور، ومن هذه العناصر الثلاثة تفوح رائحة الإنسان، وهي رائحة يصعب منع انتشارها.

****

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.