حسن السلاوي: المادة ذاكرةٌ والزمن جذورٌ

 فاس

قبل عقد من الزمن التقيته مصادفةً في وسط المدينة، وتحدثنا بحزن عن النافورة الرائعة التي كانت من إنجازه، والتي كانت تتربُّع قبالة محطة القطار وتمنح بأحجارها السيراميكية تلك الساحة العريقة التي صُمِّمت في بداية عشرينيات القرن الماضي، نوعًا من البهاء الفني. فلقد قررت السلطات هدمها وتعويضها بنافورة تقليدية أقلّ ما يقال عنها إنها تنضح بالبشاعة.


أسئلة الهوية التشكيلية

حسن السلاوي (من مواليد 1946 بفاس) ولد وترعرع في حضن مدينة تحنو على تراثها من الصنائع التقليدية، بعضها محلي والآخر موروث عن الأندلس. ولم يكن للشاب هذا إلا أن يتشرّب بهذه الذاكرة الخصبة التي رضعها من عائلته ومحيطه. وحين اختار التكوين الفني بالرباط ثم باريس بالمدرسة العليا للصنائع، كان يعرف أنه محمول على هوى ذاكرة العين واليد التي تشرَّب بها في مسقط الرأس. لذا فإنه اختار منذ زمن أن ينزاح عن التشكيل التقليدي والأسندة المتداولة من ورق وقماش، كي يبتكر لنفسه عناصر جديدة يشكلها بنفسه، مانحًا إياها نسغه الشخصي والذاتي.

والحقيقة أن سؤال الهوية التشكيلية ظل مطروحًا بحدة في الفن المغربي في الستينيات والسبعينيات. ففي الحين الذي فضّل فيه البعض الاتجاه إلى العلامة والحرف العربي (أحمد الشرقاوي وعبد الله الحريري) فضّل البعض الآخر أن يُجاوِز مضمون اللوحة وتكوينها الداخلي كي يخلخل السند نفسه. هكذا اتجه فريد بلكاهية مثلاً نحو صفائح النحاس، يطوّعها كي تتخذ الأشكال التي يبتغيها لها، ليتركها بعد ذلك نحو الجلد ويشتغل عليه بالمواد والأصباغ التقليدية.

في الوقت نفسه كان حسن السلاوي يتجه نحو البحث عن معادل ممكن لهوسه بالمواد التقليدية. هكذا جاء اختياره للخشب تعبيرًا منه عن استيحاء لتلك الرغبة الدفينة التي تسكنه. فالخشب موضوع في الصنائع التقليدية للنقش والتحوير والتحويل والترْصيع، ويحتمل كافة التعاملات الممكنة التي يفرضها عليه الفنان. إضافة إلى ذلك، فاللوح ظل سندًا وحاملاً للكتابة. إنه الورقة التي تعلّم فيها جيله وجيلي الكتابة. ففي الكُتّاب كان اللوح يربَّع في شكل ورقة ويغمر بالصلصال كي يخط عليه الصبيان الآيات القرآنية التي يطلب منهم حفظها عن ظهر قلب.

كان فريد بلكاهية قد طرح سؤال المادة في وقت مبكر: “لماذا لا يمكن للفن التشكيلي أن يتضمن شيئًا آخر ويحتضن مواد أخرى، ويحتل فضاءات أخرى، ويتجول في أمكنة مغايرة؟  لماذا لا نستكشف هذه المؤهلات الكبرى وندرسها ونجعلها موطن إلهام لنا”؟ وسوف يسائل حسن السلاوي في أطروحته التي ناقشها بفرنسا القضية نفسها، متسائلاً عن انغلاق الفنانين في القماش والورق وفي ما يقدمه الفن الغربي من أسْندة، في الوقت الذي يعمى الفنانون العرب عما يقدمه لهم محيطهم الثقافي، والأحرى بهم ممارسة القطيعة مع النموذج الفني الغربي، وتفجير الإطار المرجعي الذي يقدمه كأنه كوني.

المادة ذاكرة للعمل الفني

سار السلاوي في مغامرته التشكيلية هذه إلى حدودها القصوى. فهو إن كان يستعمل ألواح الخشب فهو يختار نوع الخشب (جذور العرعار والليمون وغيره لتماسكه ولونه والآثار التي يمنحها. بيد أن السلاوي لا يكتفي بالمادة خامًا، فهو يدخل على الخشب تحويرات يبدو معها باليًا ومتشققًا كأنه خارج من رحم التاريخ. وقد يأخذ أحيانًا قشور الخشب ويبلّها ليرسم عليها سلسلات تتعلق أحيانا بالأسطرلاب، وأخرى بوجوه الشخصيات الشهيرة التي وسمت تاريخ البلاد، وغيرها من الموضوعات.

هذا المنحى الذي يربط الفنان بالذاكرة الفنية هو ما جعله متعدد الإبداع. فقد قدم لنا أعمالاً بالسيراميك يطوع فيها الطين كي يأخذ أشكالاً تكاد تستعصي حتى على التشكيليين. وفي أعماله السيراميكية نراه ينزاح عن الذاكرة أحيانًا كي يمنحنا تكوينات وتأليفات ذات أحجام تشبه كثيرًا أعماله في النحت على الجليد، التي مارسها طويلاً برفقة فريد بلكاهية. أما منحوتاته، سواء كانت من الخشب أو من مواد أخرى، فهي تشتغل على التداوير كما لو كانت تشكل بها جسد العالم.

ينطلق حسن السلاوي من مادة الخشب ليشتغل عليها بطريقتين: الصقل والترصيع، الذي يحولها إلى ما سماه “ألواحا للذاكرة”، والتغيير عبر جعل الخشب يبدو باليًا ومتقادمًا. وفي كلتا الحالتين يتم تطويع الخشب ليتخذ في التشكيل بُعدًا ميتافيزيقيًا. فألواح الذاكرة تبدو كما لو كانت لوحًا محفوظًا يستقبل الصلصال والصمغ ويخضع للحفر والنحت. اللوح هنا يصير معادلاً لما ينطبع عليه. وهو بذلك يغازل الزمن ويستشرفه في الآن نفسه. إنه ينضح بسطحه الأصل الذي عليه تنطبع العلامات والأشكال الراقصة كما لو كانت ترغب في سحر العين ومداورة الزمن. أما صفائح الخشب، فإنه قد حولها إلى كتب ممكنة تبدو كما لو أنها مخطوطات أو تختزن علامات تراثية كالأسطرلاب أو وجوها نابعة من التاريخ.


أبراج الحاضر

هذا الهوْس بالذاكرة يرغب من خلاله حسن السلاوي في تجاوز مفهوم التراث باعتباره معطى خارجيًا كي يستبطنه ويجعله سندًا ومكونًا للعمل الفني في الآن نفسه. وهو أمر لا يتطلب فقط مهارة تقنية نابعة من تملك ذاك التراث، وإنما أيضًا مخيلة وقّادة ومبدعة تسائل الذات والآخر وتسعى لمنح مفهوم اللوحة أبعادًا جديدة مبتكرة، قريبة من اللوح بمعناه التقليدي. وفي هذا الانزياح عن السند “الكوني” يبني الفنان مجرَّته الخاصة ويعدد تناوله للمادة. ففي منحوتاته التركيبية، نلفيه يبني أبراجًا شاهقة مركبة كالبّازْل من قطع خشب متراكب يسميها “أعمدة لانهائية”، يلصق عليها مقطوعات من المجلات والجرائد، وكأنه بذلك يربط بين الذاكرة والحاضر. في هذه الصّروح يقترح السلاوي إمكانيات جديدة لتوظيف الخشب. فهو مادة يمكن أن تكون سندًا لوحيًا كما يمكن أن تكون موضوعًا لنحت الأشكال “الجسمانية” أو مركبات لبناء منحوتات متخيلة أشبه بالمنشآت.

وفي هذه العملية التركيبية الرّحالة بين المجالات يمنح لنفسه، كما للفنان العربي، إمكان الانتقال الحرّ بين الأجناس التشكيلية من غير قطيعة. فالمادة تغدو هنا برزخًا يفصل ويوحد في الآن نفسه بين التشكيل والنحت والمنشأة الفضائية الفنية، الأمر الذي لا تسمح به الأسندة المتداولة الأخرى.

إن هذه التجربة الفريدة التي انتهجها السلاوي، بالرغم من طابعها الزخرفي أحيانًا (الذي يمتح من التراث البصري نسْغه)، تفتح آفاقا محتملة كثيرة لبناء تجربة تشكيلية متعددة، منفتحة على مدارات الذاكرة كما على ممكنات الحاضر، تمنح لاستيحاء المواد والتقنيات المحلية قوة معاصرة تلزم متابعة إخصابها كي تشكل تجربة خصوصية تجعل من المحلية بوابة للعالمية. وفقا لما نشر بوكالات.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.