بين دلالة الصورة وإنعكاسها السريالي في الرمز والمعنى

 تجربة المصورة الفوتوغرافية الفلسطينية رولا حلواني والمصور الصحفي اللبناني محمود الزيات

يقول الباحث الفرنسي جون دافينيون “الصورة الفوتوغرافية هي تجربة جمالية ومخيال اجتماعي وهي لا تخاطب حاسة البصر لدى المتلقي بل تحرك سواكنه وحواسه ومخزونه العاطفي والاجتماعي”، فالصورة لغة متعدّدة المفاهيم، تتجدد بلاغتها في مواصفاتها الفنية والتعبيريّة لأنها تعطي الموضوع والحدث مصداقية تضعه في علاقة مباشرة كما تنقل معلومات وأخبار وتوثّق أحداثا ومواقف، فدورها يتضاعف فهي رسالة ووسيلة متاحة لكل الشرائح، تعتمد لدعم الرموز اللفظية في صياغة الرسائل التي يتمّ بثها لتؤكد المعنى والفكرة كما تنعكس عليها في شكل أكثر تأثيرا وضغطا فالبعد البصري استطاع أن يثري الكلمة ويوضحها ليكمّلها بل ويتحوّل إلى أكثر أهمية منها، وأسرع وأنجح وأكثر تأثيرا وتفصيلا ودقة فالمتلقي لا يقتنع بمجرد وصف لفظي لحدث ما فالصورة ضرورية ليكتمل البعد الوصفي بفنية وجمالية وهذا ما جعلها ذاكرة حيّة متجددة ووثيقة تحكي التاريخ.

 

ومن خلال تجربة المصورين اللبناني محمود الزيات والفلسطينية رولا حلواني التي اجتمعت بتفاصيلها الفنية والاخبارية  والتي عرضت بمتحف فرحات الفن من أجل الانسانية حاولنا رصد الأبعاد الفنية التي ارتقت بالصورة وضاعفت دورها من الإخبار والوصف إلى الفن والرمز والسوريالية لما حملته داخل أطرها من مقاييس وعلامات بصرية تمثلت في صراع الظلام والعتمة مع النور والأضواء التي تنفلت فيما بينها لتواجه ذلك الظلام وتنغرس في الذهن بشكل مختلف قد نراه اعتياديا في لوحات تشكيلية منجزة بحرفية وبتعامل مباشر بين الرسام وألوانه المختارة، لكن هذه الرؤية استحوذت على جوانب الصورة الفوتوغرافية والصحفية في أبعادها التي تحكمت بدقة في الأضواء وتداخلاتها في الألوان وتعبيراتها وفي الزمن وتجلياته لتمتلك قراءات فنية اتكأت على رمزية  امتلكت انفعالاتها معان سريالية تمكنت من التوصل إلى اللامرئي الذي تجاوز مشهدية الزمن.

رحلة من مكان الذاكرة إلى ذاكرة المكان وانتزاع حقيقة الصور من النيجاتيف

رولا حلواني مصورة فوتوغرافية فلسطينية استطاعت أن تخلق لها فلسفة في محاكاة الصورة فقد تحولت بها إلى رؤية إنسانية ووسيلة تعبير رمزية عكست الواقع بكل تفاصيله واقتلعته من المكان المألوف ملامحا وطبيعة وثّقته بشكل قد يبدو مشوّها لكنه حقيقي وقدّمته فنّيا.

ولدت بمدينة القدس سنة 1964 درست فنون التصوير الفوتوغرافي الصحفي ببريطانيا وكندا، عادت بخبرتها الفوتوغرافية لفلسطين لتعكس آلتها على الواقع وصوره ضمن مشاهد مختلفة ومتنوعة وبرامج وثائقية، تعتمد رولا على اللقطات اليومية المميّزة للأحداث وفق نظرتها وانفعالاتها الشخصية ثم تحرّرها الكترونيا.

من خلال صورها تبحث رولا عن اللامرئي من الوطن والهوية ، الحق والشرعية وذلك بنبش بسيط يتجادل حسيا بين الذاكرة والذكرى في ملامح المكان والشخوص، فالصور مقطّعة تحمل روايات متعدّدة عن التجارب التي يمر بها الفلسطيني في المعابر والحواجز والاحتكاك اليومي بالمحتل، فمن خلال تلك المعالجة لأطر الصور تخلق حلواني حركية وصدى يعكس أصوات الناس فنتخيل الحوارات المألوفة والقريبة التي تحيلنا على حقيقة تلك الصور المحررة من ألوانها ومن حياتها لتعطيها نوعا من الكآبة  تبثها ضمنيا لتعبر عن وجع ملامح لا تزال تتشبث بالتاريخ الظاهر في المكان بكل مكوّناته الحيّة والرمزية.

في صور حلواني كل تفصيل في المكان له حضوره المهم ورؤية رمزيّة تختلف بين القرب والبعد في الماضي والحاضر.

بين العبثية والرمزية بين الفوضى وترتيب المعنى تعلمنا رولا حلواني كيف يتحوّل المكان في الصورة إلى عنصر ثابت في الذهن حيث تمارس طقوسه من خلال الزاوية المحدّدة للفكرة في ذهنها حتى تظهرها بحرية وحيوية، حيّة تخترق اليومي بجميع تفاصيله المملّة والموجعة وتوثّق لتلك الممارسات وكيف تترك علاماتها على الأفراد في نيجاتيف صور مبطنة برمزية الدلالة البصرية.

هذه الصور تعكس الحياة رغم ما تبثّه من حزن وألم ومرارة ممزوجة بحنين وأمل يسطع مع التذكر وينعش الذاكرة البصرية التي لها علاماتها في تحريك الوجدان.

استطاعت رولا حلواني بصورها الفنية أن تبتدع لغة صادقة وعميقة نقلت الواقع الفلسطيني بعيون عدستها طوّرته بأفكارها ومشاعرها لتثبت أن الفلسطيني إنسان يحب السلام ولكنه لا يتنازل عن أبسط ذكرياته المفرحة والمؤلمة وذاكرته التي تصارع واقعا رماديا يبحث عن منفذ الألوان والنور.

 

محمود الزيات من دراما الصورة الصحفية إلى فنيّة اللّقطة الخالدة

لا يختلف محمود الزيات عن رولا حلواني في تحديد قدرة الصورة بمقاييسها على التعبير فهو يرى أنه “طالما هناك حياة.. هناك صورة” وهكذا اختصر تجربته الصحفية والفنية مع عشقه الأبدي لتخليد  المشاهد الملتقطة من قلب الأحداث ومن عمق المستجدّات التي كان يقحم فيها ويقتنصها بعدسته.

فقد هيّأته عدّة عوامل لمعانقة المواقف الجذرية والتشبّث باللّقطة التي تتحدى الزمن لتكون الحدث والحديث.

هذه الموهبة في اقتناص الصورة ليست وليدة الصدفة لكنها نتاج سنوات من الخبرة والاحتكاك والانقضاض على الحركة في الصورة والحدث والتنبؤ برؤاه الماورائيّة.

هي مسيرة صحفي تملكه الحس الفني، فهو لم يبحث عن الصورة الجاهزة بل صارع الأحداث ووقف على الحد الفاصل بين البقاء والفناء ليصل إلى الصورة التي تغزوه وتقيم في عمقه.

فالكاميرا عنده ليست أداة تسجيل للصورة بل هي أداة توثيق فنيّة وجماليّة خالدة لا تموت بانتهاء الحدث بل تعبّر عن طاقات فنيّة ثريّة تتجاوز اللّحظات العابرة لتتحوّل إلى لغة بصريّة شاهدة على تلك اللحظات تحاور روح اللقطة بتقنية المشهد البعيد عن الملل الكلاسيكي حيث يلهث المصور خلف ذلك المشهد الذي يشكل حالة ذات تأثيرات قيّمة خاصة عندما تحمل الصورة مزايا جمالية تختصر محاكاة إنسانية عميقة لغاية الصورة وهدفها.

 

بدأ محمود الزيات تجربته في المجال الفني مع الصورة الفوتوغرافية الصحفية في سنة 1989 متنقّلا بين العديد من الصحف اللبنانية والعربية إلى أن استقر بالجنوب اللبناني، حيث واكب مختلف الأحداث المميّزة للتاريخ اللبناني والمستجدات المتنوعة من سنة 1993، 1996، 2000، إلى جويلية 2006.

هذه المسيرة الصحفيّة والفنيّة ساعدته على المشاركة في العديد من المعارض في لبنان وفي الخارج كما تميّز في إحدى المسابقات الفوتوغرافية بصورة نالت جائزة عالمية عن طفلة لبنانية تدعى ” داليا حسين” أصيبت خلال غارة جوية إسرائيلية في عدوان 2006 نقلت إثرها إلى مشرحة إحدى المستشفيات ولكنه أثناء التصوير اكتشف أنها مازالت على قيد الحياة، فتمّ إسعافها وأنقذت بفضل تلك الصورة لتعبر نحو الحياة من الممر الضيّق للموت.

“تنقل الصورة الصحفية الواقع ولكنها تتفوق عليه بجمالية تبدي مقاييسه الطبيعية البعيدة، فتتحوّل إلى وثيقة للتاريخ والأجيال اللاحقة، يعكس انجازها إيمانا كبيرا وثقة لا تعيقها حواجز وإن أعاقتها فجمالها يكمن في ذلك المنع أو المعاناة التي تجعل التقاطها انتزاعا من الزمن فتنقل المعلومة ببساطة فنيّة راقية قادرة على إثارة المشاعر وزرع حنين مختلف في الذاكرة”.

ساهمت الصورة الفوتوغرافية التي قدمها كل من الزيات ورولا حلواني في نقل الأحداث وفق بعدين بعد تعييني يصف الموجود وبعد تضميني لما تتركه الصورة من أثر وقد تمكنا من أن يرسخا لغة بصرية عميقة بنت تشكيلات فنية متشابكة اخترقت الزمان والمكان والفضاء الفيزيائي لحدود الصورة لتعتقل اللّحظة والحدث معا وتخلده في تسجيل حي وتأريخ للحياة العابرة التي مرّت بألم فتجاوز دورها الإخبار ليجعلها شاهدا ودليلا على العديد من الأحداث التي تعجز الذاكرة عن العودة إلى تفاصيله فتصطاد الصورة هذه اللحظات الهاربة من الزمن لتوثقها زمانا  ومكانا وحسا وتأثيرا وجمالا، وهو ما يمنحها علامات سريالية استطاعت أن تكون بها فوق الواقع الاعتيادي لأنها تحوّلت بتفاصيلها إلى حضور خارق لا يختلف عن تلك الأحلام التي تحاول النجاة من الكوابيس.

 

*الأعمال المرفقة

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية: رولا حلوني مجموعة صنع في فلسطين

محمود الزيات مجموعة بنك الصور اللبناني

Farhat Art Museum Collection

Made in Palestine / Lebanese Photo Bank

 

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.